الثلاثاء، 7 يناير 2014

العلاقة الدلوماسية في السيرة النبوية ـ السفراء إلى المدينة

السفراء إلى المدينة
بقلم: محمد علي الوافي ـ الباحث/ مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جوهرلال نهروـ نيودلهي

لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمد أربعة أشهر لقبائل العرب المشركين لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم قبل أن تتخذ الدولة الإسلامية منهم موقفا معينا، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه معلنة إيمانها وولاءها, وقد اختلف العلماء في تاريخ مقدم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عددها, حيث أشارت المصادر الحديثة والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة؛ ولعل مما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض[1]، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم  فقد أورد محمد بن إسحاق أنه: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كل وجه[2].
والسبب الظاهر لهذا الحدث الكبير – الذي هو كثرة الوفود في هذه السنة بالذات- هو دخول قريش زعيمة العرب في الإسلام، ففتح مكة ثم الطائف وغزو الروم في تبوك لم يبق لأحد التفكير في غلبة صاحب الرسالة والانتصار عليه بحال من الأحول[3].
وقد تميز هذا العام بتوافد العرب إلى المدينة وقد استعدت الدولة الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال، بتهيئة مكان إقامة لهم وكانت هناك دار للضيافة([4]) ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين([5]) واهتم صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كانت تلك الوفود حريصة على فهم الإسلام وتعلم شرائعه وأحكامه، وآدابه، ونظمه في الحياة، وتطبيق ما علموه تطبيقا عمليا، جعلهم نماذج حياة لفضائله، وقد كان لكثير منهم تساؤلات عن أشياء كانت شائعة بينهم ابتغاء معرفة حلالها وحرامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على تفقيههم في الدين، وبيان ما سألوه عنه, وكان صلى الله عليه وسلم يدني منهم من يعلم منه زيادة حرص على القرآن العظيم وحفظ آياته تفقهًا فيه ويقول لأصحابه: فقهوا إخوانكم([6]) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عمن يعرف من شرفائهم، فإذا رغبوا في الرحيل إلى بلادهم أوصاهم بلزوم الحق، وحثهم على الاعتصام بالصبر، ثم يجزيهم بالجوائز الحسان، ويسوي بينهم, فإذا رجعوا إلى أقوامهم رجعوا هداة دعاة مشرقة قلوبهم بنور الإيمان، يعلمونهم مما علموا، ويحدثونهم بما سمعوا، ويذكرون لهم مكارم النبي وبره وبشره واستنارة وجهه سرورا بمقدمهم عليه، ويذكرون لهم ما شاهدوه من حال أصحابه في تآخيهم وتحاببهم, ومواساة بعضهم بعضًا ليثيروا في أنفسهم الشوق إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقاء أصحابه, ويحببوا إليهم التأسي بهم في سلوكهم ومكارم أخلاقهم([7])
فكان لكل ذلك أثره الطبيعي في النفس، فتح الطريق للدخول في الإسلام ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتقاطرت وفود هداية واستطلاع إلى مركز الإسلام كأنها عقد انفرط، فتساقط لآلئه في حجر الإسلام. وكانت تعود إلى مراكزها تحمل روحا جديدة، وشحنة إيمانية، وحماسا في الدعوة إلى الإسلام، وكراهة شديدة للوثنية وآثارها، والجاهلية وشعارها[8].
أهم الوفود
وفد بني أسد:
وكانوا أقوياء أشداء، يسكنون شمال شرق الحجاز، وعدد رجال هذا الوفد عشرة، وقالوا لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيناك قبل أن ترسل إلينا رسولا" يمنون بهذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فيهم: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين[9].
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العيافة[10]، والكهانة، وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك[11].
وفد بليّ:
وقد نزل على أحد البلوين بالمدينة، وهو رُويفع بن ثابت البلوي، فلما رآهم قال: الحمد لله الذي هداكم إلى الإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار. وقبل أن يودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو الضُّبيب شيخ الوفد: يا رسول الله! إني رجل في رغبة من الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، وقال الرجل: يا رسول الله، كم وقت الضيافة؟ قال: "ثلاثة أيام، ما كان بعد ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك حتى يحرجك". ثم ودّعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أجازهم[12].
وفد تميم:
وقد كان عدد أفراده يزيد على عشرة الأنفار وكلهم من أشراف بني تميم، وعلى رأسهم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، ومن بينهم الأقرع بن حابس والحجاب والزبرقان بن بدر بن يزيد أحد بن دارم بن مالك، وعيينة بن حصن، وقد كان عيينة والأقرع شهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف.
واشتهرت المساجلة التي جرت  بين خطيبهم وشاعرهم، وبين خطيب المسلمين وشاعرهم، ظهر فيها فضل الإسلام وتفوق خطيبه وشاعره، أقر بذلك رؤساءهم وأسلموا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم[13].
وفد عبد قيس:
وقد تحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن قدومهم فقال:
إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  “من الوفد؟ “ أو  “من القوم؟ “ قالوا: ربيعة قال:  “مرحبا بالقوم([14]) -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى “ ([15]). قال: فقالوا: يا رسول الله, إنا نأتيك من شقة بعيدة([16]) وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل([17]) نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال:  “هل تدرون ما الإيمان بالله؟ “ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:  “شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمسا من المغنم “ ونهاهم عن الدباء([18]) والحنتم([19]) والمزفت([20]) وربما قال النقير([21]) أو المقير، وقال:  “احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم “ ([22]) وفي رواية: أن الأشج بن عبد القيس تخلف في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:  “إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله “ فقال: جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟ قال:  “بل جبل “ قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله([23]).
وقد انشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم وأخر صلاة السنة البعدية بعد الظهر وصلاها بعد العصر([24]).
وفد ضمامة بن ثعلبة عن قومه سعد بن بكر:
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد, ثم علقه, ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسألك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد([25]) عليَّ في نفسك, فقال:  “سل عما بدا لك “ فقال: أسألك بربك وربِّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال:  “اللهم نعم “. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال:  “اللهم نعم “. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال:  “اللهم نعم “ قال: أنشدك بالله, آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  “اللهم نعم “. فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر([26]).
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص.
قال: ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى:  “إن يصدق ذو العقيصتين([27]) يدخل الجنة “ قال: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه, فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: صه يا ضمام اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم! إنهما –والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا, قال: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة([28]).
وتدل قصة إسلامه على مدى انتشار تعاليم الإسلام في وسط القبائل العربية، حتى جاء ضمام لا ليسأل عنها، ولكن جاء ليستوثق منها، معددا لها الواحدة تلو الأخرى، مما يدل على استيعابه لها قبل مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم([29]).
وفد بني حنيفة:
جاء وفد من بني حنيفة، ومن بينهم مسليمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن مسيلمة خلفوه في رحالهم، فلم يشرف بمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم أسلموا وأمر لهم بجوائز، وذكروه له، فأمر له بمثل ما أمر لهم، ثم انصرفوا وأعطوا مسيلمة الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم اليمامة ارتدّ عدوّ الله، وادعى النبوة وتنبأ كذبا، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم، بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" ردّا على كتابه الذي بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركتكم في الأمر، وليس قريش قوما يعدلون[30].
وفد رسل ملوك حمير:
وبعد ذلك توفد إلى المدينة رسل ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، ومعافر وهمدان يبلغونه إسلام أقوامهم، وكان رسولهم إليه صلى الله عليه وسلم هو مالك بن مرة الرهاوي، بعث به زرعة ذو يزن إليه صلى الله عليه وسلم، فكتب إليهم  صلى الله عليه وسلم كتابا هذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله النبي إلى الحارث بن كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رُعين، ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إلاه إلا هو، أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبا من أرض الروم فلقينا بالمدينة فبلّغ ما أرسلتم به، وخبر ما قلتم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم أطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم نبيه وصفيّه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة". وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقرة والغنم. ثم قال: "فمن زاد فهو خيرله، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا دينار واف من قيمة المعافر[31] أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك إلى رسول الله فإنه له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ورسوله[32]"
وفد بهراء:
وهؤلاء من اليمن الجنوبي، وكان مكونا من ثلاثة عشر رجلا، ونزلوا على المقداد بن عمرو، وأقاموا بالمدينة أياما تعلموا فيها الفرائض، وواجبات الإسلام ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم كغيرهم بجوائز فأخذوها وانصرفوا إلى ديارهم[33].
وفد نصارى نجران:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران([34]) كتابا قال فيه: أما بعد, فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام([35]).
فلما أتى الأسقف الكتاب، جمع الناس وقرأه عليهم، وسألهم عن الرأي فيه, فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا يتكون من أربعة عشر من أشرافهم، وقيل ستين راكبًا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتيم الذهب، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  “دعوهم “.
ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم، ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان: من أجل زيكم هذا، فانصرفوا يومهم هذا، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه، فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  “يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدًا “([36]) وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة, وكان مما قالوه لرسول  الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا وتقول إنه عبد الله، فقال:  “أجل إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول “، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )[37].
فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه([38]), فلما لم تُجْدِ معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة([39]) امتثالا لقوله تعالى: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )[40].
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي، والحسن والحسين، وفاطمة وقال:  “وإذا أنا دعوت فأمنوا “ فائتمروا فيما بينهم فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقًّا، وأنه ما باهل قوم نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر([41]) ولما عزموا على الرجوع إلى بلادهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معنا رجلاً أمينًا ليقبض منهم مال الصلح, فقال لهم:  “لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين “ فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلما قام قال: "هذا أمين هذه الأمة"[42].
وفد عذرة:
وكانوا اثني عشر رجلا، منهم حمزة بن النعمان، ولما شرفوا بالمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم قائلا: من القوم؟ قال متكلمهم: ممن لاتنكر نحن بنوا عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصيا وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفني بكم" فأسلموا وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده. ونهاهم عن سؤال الكهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، ثم أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى بلادهم[43].
وفد ذو مرة:
وكان مكونا من ثلاثة عشر رجلا، ورئيس الوفد الحارث بن عوف، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: "كيف البلاد؟" قالوا: والله إنا لمسنتون[44] فادع الله تعالى لنا، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقهم الغيث"، ثم أقاموا أياما، وأجيزوا بجوائز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى بلادهم فجدوها قد أمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم[45].

وفد سعد بن بكر:
وكان رئيسهم ضمام بن ثعلبة، فتقدم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة انتظمت قواعد الدين وكثيرا من الواجبات والمحرمات فأسلم، وفلما قفل راجعا إلى قومه- ليبلغهم دعوة الله تعالى- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ذو العقيصتين[46] دخل الجنة" فلما قدم على قومه اجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به قوله: "بئست اللات والعزى، فقالوا محذرين له: اتقِ البرص والجذام والجنون، أي: أن تصيبك من أجل ذمك اللات والعزى- وهما إلهان عندهم- فقال ضمام: ويحكم إنهما لا يضران ولا ينفعان، وإن الله قد بعث محمدا رسولا، وأنزل عليه كتابا، وقد استنقذكم به مما كنتم فيه، وأظهر لهم إسلامه، فما أمسى في ذلك اليوم رجل مشرك، ولا امرأة مشركة، فما سُمع بوافد قوم كان أبرك ولا أفضل من ضمام بن ثعلبة[47].
وفد الأزد:
قال سويد بن الحارث الأزدي: وفدتُ سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه، فأعجبه ما رأى من سَمْتنا وزيّنا قال: "ما أنتم؟" قلنا: مؤمنون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟" قلنا خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الخمسة التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟" قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: "وما الخمسة التي أمرتكم أن تعملوا بها؟" قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا، فقال: "وما الخمسة التي تخلقتم بها في الجاهلية؟" قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمُرّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء" ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسا فيتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، واغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون" وانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظوا وصيته وعملوا بها[48].
وفد طيئ:
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من طيئ وعلى رأسهم زيد الخيل، فلما انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلموه، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلاموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذُكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه"، ثم سمّاه زيد الخير، وقطع له فيدا[49] وأرضين معه، وكتب له بذلك كتابا، فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى قومه[50].



[1]  السيرة النبوية: للدكتور على محمد الصلابي ص:861.
[2]  البداية والنهاية  5/46،47
[3]  هذا الحبيب يا محب: أبو بكر جابر الجزائري، ص:351.
 [4]    المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي، محمد شراب  2/400 .  
 [5]    دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص221.
 [6]    محمد رسول الله, صادق عرجون,  4/520
 [7]  محمد رسول الله, صادق عرجون,  4/521 .
[8]  السيرة النبوية : الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، ص:378.
[9]  سورة الحجرات، رقم: 17.
[10] العفاية: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها.
[11] هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري،ص:351.
[12]  هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري،ص:352.
[13]  السيرة النبوية، الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، ص:378.
 [14]  مرحبا بالقوم: صادفت رحبا وسعة. .
 [15]  غير خزايا ولا ندامى: معناه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد.
 [16]  شقة بعيدة: السفر البعيد، وقيل المسافة البعيدة.
 [17]  الأمر الفصل: البين الواضح الذي ينفصل به المراد.
 [18]  الدباء: القرع اليابس, أي الوعاء فيه.
 [19]  الحنتم: أصح الأقوال فيها: الجرار الخضر وهي جرار كان يحمل فيها الخمر.
 [20]  المزفت: الأوعية التي فيها الزفت.
 [21]  النقير: جذع ينقر وسطه ثم ينبذ فيها الرطب والبسر.
 [22]  البخاري، كتاب الإيمان رقم 53.
 [23]    صحيح السيرة النبوية, ص 631.
 [24]   صحيح السيرة النبوية ، ص 635.
 [25]  تجد: تحقد وتحمل البغضاء
 [26]   البخاري، كتاب العلم, رقم 63.
 3  لأنه فرق شعره فرقتين.

 [28]    صحيح السيرة النبوية، ص630، مسند أحمد  1/264 . .
 [29]    السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص650
[30]  هذا الحبيب يا محب، أبو بكر جابر الجزائري، ص:354.
[31]  المعافر: ثياب من اليمن.
[32]  هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري، ص:355.
[33]  هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري، ص:355
[34] نجران بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن. .
[35]   البداية والنهاية  5/48 .
 [36]    السيرة النبوية لأبي شهبة  2/547
[37]  سورة  آل عمران: 59-60
 [38]    زاد المعاد  3/633 ، السيرة النبوية لأبي شهبة  2/547 . .
 [39]، 5    السيرة النبوية لأبي شهبة  2/547 .
[40] آل عمران: 61
 [41]   السيرة النبوية لأبي شهبة  2/547 . 
[42]  البخاري, كتاب فضائل الصحابة, رقم 3745.
[43]  هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري،ص:355.
[44]  أصابتهم سنة الجدب والقحط.
[45] هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري،ص:356.
[46]  غديرتين من الشعر، لأنه كان أشعر: كثير الشَعر.
[47] هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري،ص:356.
[48] هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري، ص:356،357.
[49]  فيد: إسم مكان شرقي سلمى أحد جبلي طيئ.
[50]  هذا الحبيب يا محب، أبوبكر جابر الجزائري، ص:357.

0 comments:

إرسال تعليق