الأحد، 29 نوفمبر 2015

السنة الدولية للضوء، يحتفل اليونسكو (UNESCO) بابن الهيثم البصري

بقلم محمدعلي الوافي، الباحث/ مركز الدراسات العربية والإفريقة، جامعة جواهرلال نهرو ــ نيودلهي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين ــ وبعد.
ورب رجل أخذ كلام الباري بعين الاعتبار إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار،[1] ولو لم يقم هؤلاء الرجال الذين قاموا باختراعات واكتشافات قادت العالم إلى أوج الازدهار وأفق الارتقاء، لترجع الساعة قهقرى إلى آلاف السنين كي يتيه الإنسان يصطاد الحيوان ويلبس الأرياش ويأوي إلى الكهوف. ولا ينكر عالَم اليوم فضل هؤلاء العباقرة الذين فكّروا عمن يجيئون بعدهم، وأبقوا أثارهم وبصماتِهم على كانواس (Canvas) الاختراع. ومن هنا نتذكر قامة من قامات العصر الإسلامي الذهبي وفحلا من فحول الحضارة الإسلامية، عالم ذو الوجهة المستقبلية عاش قبل ألف سنة، ولم تكن حياته وأعماله يوما مهمة بقدر ما هي عليه الآن، هو الحسن بن الهيثمي مؤسس علم البصريات الحديثة.
أعلنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في دورتها 68 في 20 ديسمبر 2013م أن عام 2015م سيتم تسميته بالسنة الدولية للضوء (International Year of Light) والتقنيات المستندة إلى ذلك العلم. وبالفعل انطلقت فعاليات تلك السنة من مقر اليونسكو في باريس في 19 يناير 2015م مع إزاحة الستار عن أحد أهم المعارض التفعالية العالمية (1001 اختراع) الذي يسلط الضوء على أعظم العلماء العرب والمسلمين الذين عاشوا إبان حقبة ما يسمى ‘العصر الذهبي الإسلامي للعلوم’ منذ نحو ألف سنة. وبطل ذلك المعرض العالمي هو عالم البصريات العربي الفذ الحسن بن الهيثم الذي برع في علوم البصريات والرياضيات وعلم الفلك، والذي يعود له الفضل في إرساء أسس المنهج التجريبي العلمي المتبع في العصر الحالي.

نبذة عن العالم ابن الهيثم
ولد الحسن بن الحسن بن الهيثم[2] في البصرة (جنوب العراق)، وتعلم على أيدي مشايخها. ولقبه بعض المؤرخين بيشخ البصرة ومهندسها، أما المؤرخون الأوروبيون فتعرفوا إلى أعماله وإسهاماته بدءا من منتصف القرن التاسع، فراحوا يسلطون الضوء على مختلف مؤلفاته لا سيما في البصريات. وعرف آنذاك لدى أولئك باسم ‘الهازن’ أو ‘الحازن’ (Al Hazen) وهو تحريف لاسم الحسن ــ أي الحسن بن الهيثم[3].
ولما شب هذا الفتى الموهوب كان شغوفا بالعلم محبا للاطلاع والاستكشاف، حيث درس طب العيون (طب الكحالة/ أو الكحالة). ولكنه لم يمارس هذا العمل لأن ذوقه وفطريته تمنعه من الانعكاف عليه، وقد وجد اللذة والحلاوة في الرياضيات والفيزياء، وقد رأى نفسه وذوقه يميل إليهما أكثر مما يميل إلى طب العيون. والمؤلفات التي بلغت 80 في الرياضيات والفيزياء والفلك خير دليل لشغفه بها، وقد ألف كتابا واحدا في علم الطب الذي تعلم مبادئه وتفقه فيه.
كتاب المناظر
جاء في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي على لسان ابن الهيثم: «لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان.» فوصل قوله هذا إلى الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي دعاه إلى مصر لتنظيم فيضانات النيل، وأمده بما يريد للقيام بهذا المشروع، وهي مهمة التي تطلبت حينئذ بناء سد في الموقع الحالي لسد أسوان، وبعد أن تفقّد الموقع أدرك عدم جدوى هذا المشروع لضعف الإمكانات المتاحة في ذاك الوقت، وخوفًا من غضب الخليفة، إدعى الجنون، فاحتجز بمنزله من عام 401 هـ/1011م حتى وفاة الحاكم في عام 411 هـ/1021م. وخلال تلك الفترة، كتب كتابه الأشهر كتاب المناظر.[4]
يعد كتاب المناظر لابن الهيثم أنفس ما أنتج العلماء العرب في مجال الفيزياء، وأهم كتاب في البصريات ظهر في الحقبة الممتدة بين القرن الثاني الملايدي وأوائل القرن السابع عشر. ولأهمية ذلك الكتاب فقد نشرت ترجمته إلى اللاتينية سنة 1572م، وكان لهذه الترجمة أثر بالغ في تعريف الغربيين بهذا العلم. تطرق ابن الهيثم في مقدمة الكتاب إلى الغاية التي جعلته يقدم على تأليفه، فقال: إنه بعد أن اطلع على نظريات العلماء الذين سبقوه فيما يتعلق بالإبصار وحقيقته لم يجد سوى آراء متناثرة يحكمها اختلاف ظاهر وتباعد واضح، مما جعله يعزم على تأليف هذا الكتاب. وحدد ابن الهيثم أسباب كثرة تأليفه في ثلاثة أسباب:
الأول: أن يجد الناس في كتبه (بعد موته) الفائدة والعلم اللذين يقدمهما لهم في حياته. والثاني: أن يجعل من التأليف وتدبيج الرسائل ارتياضا لنفسه بهذه الأمور في تثبيت ما تصوره فكره وأتقنه من هذه الدراسات. والثالث: أن يدخر من تلك التآليف عدة لزمن الشيخوخة وأوان الهرم.
وقال ابن الهيثم في مقدمة الكتاب مبينا منهجه: نبتدئ في البحث في استقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، ثم نترقى في البحثوالمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من النتائج.
وهذا الكتاب الشهير يتضمن سبع مقالات.المقالة الأولى: وهي تعالج قضية كيفية الإبصار بالجملة. وأما المقالة الثانية:  ففيه يفصل ابن الهيثم المعاني التي يدركها البصر وكيفية الإدراك، والعلل التي تعتريها. والمقالة الثالثة: في أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة، وعللها. والمقالة الرابعة: في انعكاس الأضواء وإدراك المبصرات بالانعكاس. والمقالة الخامسة: في مواضع الخيالات والصور التي ترى في الأجسام الصقلية. والمقالة السادسة: في أغلاط البصر فيما يدركه بالانعكاس، وعللها. والمقالة السابعة: إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء.
وكذلك يتضمن الكتاب عددا من الآراء العلمية الشهيرة، ومن أهمها أبحاثه عن طبيعة الضوء(The nature of light)، والانعكاس(Reflection)، والانعطاف أو الانكسار(Inflection or refraction)، وتشريح العين(Anatomy of the eye)، والأخطاء والأوهام البصرية(Visual illusions)، والغرفة المظلمة ذات الثقب(Pinhole dark room).
علم البصريات (Optics)
عرف علم البصريات (Optics) عند العرب باسم علم المناظر. وكان المسلمون قد أخذوا أطراف هذا العلم من اليونانيين السابقين أمثال إقليدس صاحب كتاب اختلاف المناظر الذي ترجمه حنين بن إسحق وصححه ثابت بن قرة، وأولونيوس وأرخميدس وأرسطو وهيرون، وبطلميوس صاحب كتاب (كتاب المناظر) وغيرهم. وليس معناه أن المسلمين قد نقلوا آراءهم وانتحلوا اكتشافاتهم كي يدعوا براءة الاختراع (Patent) في علم البصريات. وإنما نقلوا من اليونان آراءهم المتعلقة بعلم البصائر والفيزياء، لأنه كان اليونان من الموهبة العقلية بمكان في الحقبة التاريخية. ولما انقرضت الحقبة اليونانية قام العلماء المسلمون بحفظها وانتاجها كي لا يفوت العالم هذه المخازن العلمية والمخبآت المعرفية.
وبعد أن نقل المسلمون هذه المخازن العلمية إلى عاصمة المسلمين، قد بدأوا التأليف والتنقيح في هذه العلوم. وأما علم المناظر أو علم البصريات، فإن المسلمين قد قاموا بالتفكير عنها قبل ابن الهيثم. وكان علماء المسلمين مثل الكندي والرازي وإبراهيم بن سنان والعلاء بن سهيل أخذوا يفكرون فيها وينتجون منها، إلا أن هذا العلم لم يصل إلى أوجها العلمي إلا على يد هذا العالم الفريد وهو الحسن بن الهيثم البصري، وذلك في بداية القرن الخامس الهجري.
وأهم المنجزات العلمية التي أوجدها ابن الهيثم في علم البصريات فهو إبراز تلك الآخطاء السائدة والشائعات الرائجة في مجال الضوء قبل دراسته وبحثه. وكان علماء الضوء يؤمنون أن عملية الرؤية تقع حسب نظرية الشعاع التي تقر بأن الرؤية تتم بسبب خروج شعاع مخروطي رأسه عند العين وقاعدته عند الجسم المبصر. [5]
وقد أتى ابن الهيثم بدعوى علمية جديدة في مجال علم الضوء، فهو أن الشائعات التي سادت في تلك القرون بعيدة عن الحق، حيث قال إن عملية الإبصار تتم بانعكاس الضوء عن الجسم ومن ثم دخول الشعاع إلى شبكية العين، والذي يلامس بدوره العصب البصري الذي ينقل الصورة إلى الدماع. وقد قدم العالم البصري النحرير دليلا بأن الرؤية غير ممكنة في الظلام الحالك، مع أن العين صحيحة وسليمة. بل قدم هذا الباحث المثالي ثمانية شروط يراها لازمة لإدراك المبصر[6]، وهي: الاستضاءة، البعد المعتدل، المواجهة، الحجم المقتدر، الكثافة، شفيف الوسط، الزمان، وسلامة البصر. وإليه ينسب مبادئ اختراع الكاميرا.[7] وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل من العلماء المسلمين مثل ابن سينا والبيروني يتفقون مع ابن الهيثم في نظريته الانعكاس.
وقد قدم هذه الشخصية الإسلامية الفذة إلى عالم البصريات نظرياته ذات علاقة علمية بعالم اليوم. بل إنه درس وشرح هذه المسائل التي ترتبط بعلم البصريات، وصرح بخطورة هذه المسائل وجدارتها في علم البصريات. ومما يدعوا إلى الدهشة والإعجاب أن علم البصريات لم يعنى بها أحد إلا بعد نهضة العلم الحديثة في أوروبا وذلك في النصف الأول من القرن المنصرم. ومن أهم النظريات البصرية التي وصلت إليها أبحاث ابن الهيثم في القرن العاشر الميلادي ما يلي: نظرية انعكاس الضوء، ونظرية انكسار الضوء، والظاهرات الضوئية الجوية، والبحث القيم في طبيعة الضوء وسرعة الضوء. ومما يزيد إعجابنا بهذه القامة العلمية العربية، أنه لم يبرز في البصريات والضوء فحسب، بل اشتغل أيضا في مجال الحساب والهندسة والفلك.
الاحتفالات العالمية بابن الهيثم
أجريت عدة احتفاليات عربية وعالمية بابن الهيثم في القرن العشرين، واحتفالية منظمة اليونسكو هذا العام 2015م بالسنة الدولية للضوء وابن الهيثم، وهي ثاني الاحتفاليات الرسمية في القرن الحادي والعشرين، بعد احتفالية موقع البحث الشهير غوغل حيث احتفل بذكرى ميلاده في 30 مارس 2014م. وفي عام 1939م أقامت الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية احتفالياتها بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة ابن الهيثم، وذلك في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة. حيث ألقى حينها الباحث المصري المعروف مصطفى مشرفة محاضرة بعنوان (ابن الهيثم كعالم في الرياضيات).[8]
كما أقيم حفل تذكاري في عام 1969م لابن الهيثم في باكستان، وقد قال فيه حكيم محمد سعيد رئيس مجلس العلوم في كراتشي: "يعد وقوف الإنسان على سطح القمر للمرة الأولى راجعا بدون شك إلى التكنولوجيا الحديثة، ولو أخذ كل شيء بعين الاعتبار فإن ابن الهيثم يعد رائد هؤلاء العلماء الأمريكيين، حيث إن كل نظرياتهم في الرياضيات مقتبسة من ابتكارات ابي علي، ولهذا فإنه باستطاعتي أن أقول: إن لابن الهيثم عقلية القرن العشرين وإن كان قد عاش في القرن العاشر، ومهما حاولت أن أصف عالمنا الكبير فإنني عاجز عن ذلك..."[9]
وكم هي جميلة لو كرمنا نحن المسلمون ابن الهيثم لما قدمه إلى عالم اليوم وإنسانية الغد. وأجمل تكريم من وسعنا وطاقتنا أن نتبع طريقه ومنهجه في التفكير، وأن نلقح هذا النمط الإسلامي في التفكير إلى قلوب الأجيال القادمة وأفكارهم، حيث نعلمهم كي يكونوا نسخة هيثمية لأجيالهم. وإن لم نطبق آراءه وأفكاره في أجيالنا القادمة، وإن لم نتقدم للاتباع بطريقته الفكرية والعلمية، فتعالوا ننادي ابن الهيثم غربيا، وإن كنتم تخالفوننا ــ والحق في جانبكم، لأنه شرقي حيث إنه عاش ومات في الشرق، ولكني أقول إنه غربي، لأن أفكاره قد انتشرت في الغرب وصيته قد ذاعت بين العلماء الغرب، ومناهجه في العلم قد اتبعها الغرب. أما أنتم  فلم تتعرفوا عليه إلا بتصاريح رسمية صادرة عن منظمة اليونسكو تخبركم بالسنة الدولية للضوء في عام 2015م. وهؤلاء قد استغلوه، بل نقلوا علومه واكتشافاتِه إلى اللغات الغربية.
وقد أقبل المترجمون والمنتحلون على كتب ابن الهيثم التي بقيت منهلا وحيدا ينهل منه أكثر علماء القرون الوسطى، ونقلت كتبه إلى اللغات العبرية والإسبانية والإيطالية واللاتينية والإنجليزية. أمة أصبحت تتذكر أمجاد أبائهم ولا يفكرون بأذهانهم وعقولهم، فضلّت الطريق إلى بغدادها وقرطبها.
**  تصريح الكاتب، للأمانة العلمية: كتبت هذه المقالة بالاعتماد على المجلات العربية خاصة مجلة التقدم العلمي من الكويت، والمواقع العربية ثم كتاب المناظر.
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
كتاب المناظر  لابن الهيثم البصري.
ويكيبيديا الموسوعة الحرة ــ ابن الهيثم
مجلة التقدم العلمي/ مجلة علمية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي العدد89، أبريل 2015م.



[1] رقم الآية 190، 191، سورة آل عمران الجزء الرابع.
[2]  هناك شخصيان شهيران بهذا الإسم. الأول اسمه الحسن بن الحسن بن الهيثم، وهو العالم العربي البصري مؤسس علم البصريات. والثاني اسمه محمد بن الحسن بن الهيثم، وهو فيلسوف في القرن الخامس الهجري. وقد وقع الكثير من كتاب السير والمحدثين في الخلط بينهما. كما يقول الباحث رشدي راشد في دراسة نشرها في كتابه (الرياضيات التحليلية).
[3]  مقالة، الحسن بن الهيثم ــ الرياضي والفلكي للدكتور أبي بكر خالد سعد الله/ مجلة التقدم العلمي ص 19، العدد 89.
[5]  وقد دعم هذه النظرية علماء اليونان مثل إقليدس، وبطلميوس ومن شايعهم من الرواقين.
[6]  مقالة: الحسن بن الهيثم مؤسس علم الضوء الحديث للدكتور سائر بصمة جي السوري/ مجلة التقدم العلمي ص15، العدد89.
[8]  مقالة: الحسن بن الهيثم مؤسس علم الضوء الحديث للدكتور سائر بصمة جي السوري/ مجلة التقدم العلمي ص18، العدد89.
[9]  نفس المصدر.

0 comments:

إرسال تعليق