ذكريات الوافي

إن أحسنت فيما كتبت فمن الله الملك المان وإن أخطأت فيما كتبت فمني ومن الشيطان الرجيم ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ذكريات الوافي

إن أحسنت فيما كتبت فمن الله الملك المان وإن أخطأت فيما كتبت فمني ومن الشيطان الرجيم ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ذكريات الوافي

إن أحسنت فيما كتبت فمن الله الملك المان وإن أخطأت فيما كتبت فمني ومن الشيطان الرجيم ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ذكريات الوافي

إن أحسنت فيما كتبت فمن الله الملك المان وإن أخطأت فيما كتبت فمني ومن الشيطان الرجيم ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ذكريات الوافي

إن أحسنت فيما كتبت فمن الله الملك المان وإن أخطأت فيما كتبت فمني ومن الشيطان الرجيم ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم

‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصة والأقصوصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصة والأقصوصة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 25 يناير 2014

يا جدي قصة لعبد الرحمن حمادي

يا جدي
عبد الرحمن حمادي ( القصاص السوري )
( مأخوذة من مجلة البيان العددان: 384-385 )
صرت أعتقد بشكل أو بآخر بأن جدي – رحمه الله – صاحب كرامات من نوع ما، فبفضله حصلت على امتياز الجلوس مع السيد مدير المنطقة شخصيا، بل واحتساء القهوة معه، وحيث اكتشفت أن سيادته بخلاف ما يشاع عنه يجيد التحدث والابتسام مثل بقية البشر.
صحيح أن دورية الشرطة التي جلبتني من دائرتي إلى مكتبه سببت لي الكثير من المتاعب النفسية والرعب، ولكن كل ذلك يهون إزاء ما سوف أتنعم به عندما يعرف مدير دائرتي من أنا، وأن السيد مدير المنطقة هو صديقي، فقد أكد سيادته أننا بعد أن أعود من أداء المهمة التي كلفت بها سنكون أصدقاء، وسأجد باب مكتبه مفتوحا أمامي في أي وقت أريد، وسأعترف لكم أنني أثناء تنعمي بالجلوس في مكتب السيد مدير المنطقة ومعه شخصيا، وبعد أن عرفت أهميتي، شعرت بالغرور، وهذا من حقي، فقد شغلت السلطات المحلية في محافظتين متباعدتين حسب اعتراف السيد مدير المنطقة بالذات، فبعد أن قدم لي لفافة تبغ من علبته الفاخرة أشار إلى الأوراق الموجودة على طاولته وقال:
"لقد أجرت السلطات المحلية في محافظة – إدلب – استقصاءاتها السريعة عنك، وعلمت أنك تقيم هنا في مدينة – القامشلي – بمحافظة – الحسكة – فأرسل السيد محافظ إدلب فاكسا للسيد محافظ الحسكة الذي أرسل بدوره لي فاكسا يشرح فيه المشكلة ويطلب إرسالك فورا لبلدة – د – في محافظة إدلب".
وبعد أن أمر سيادته بتقديم القهوة لي مجددا تابع وهو يشرح لي المشكلة: "حسب الفاكس الذي وصلني كان جدك مقيما بلدة "د"، وكان يعمل قيما على القبة في الحاكورة الشرقية فيها، وأنت تعرف أهمية القبة بالنسبة للأهالي هناك، فهم يعتقدون بأنها تمنحهم البركات، ولكن مؤخرا، وبسبب فيضان النهر انهارت القبة، ولتبدأ مشكلة كبيرة فعلا، فقد صادف انهيار القبة مع بدء قطاف الزيتون، وقد اعتقد الأهالي أن ذلك نذير شؤم، فامتنعوا عن قطاف زيتونهم إلا بعد إعادة بناء القبة، وهذا سبب مشكلة للسلطات المحلية في محافظة إدلب، فهي متعاقدة على توريد كميات كبيرة من الزيتون إلى الخارج، والأهالي يصرون على عدم قطف زيتونهم إلا بعد بناء القبة".
-                   ولماذا لا يعيدون بناءها؟!
سألت باستغراب واضح، فعقب السيد مدير المنطقة بنبرة تعبر عن سروره لأنني أمسكت بمفتاح فهم القضية:
"لأنهم يعتقدون بأنه لا يجوز بناء القبة ثانية إلا بوجود أحد أفراد عائلة جدك معهم باعتبار أن جدك كان قيما عليها، وأنت حسب الاستقصاءات الرسمية آخر من بقي من سلالة جدك، لهذا يجب أن تسافر فورا للبلدة... مدير الناحية هناك ينتظرك بفارغ الصبر... اعتبر نفسك في مهمة وطنية..."
ولأن المهمة الوطنية التي كلفني بها السيد مدير المنطقة لا تحتمل أي تأخير، فقد خرجت من مكتبه برفقة سائقه الذي أوصلني بسيارته إلى أول حافلة نقل الركاب متجهة إلى حلب، وحيث أستطيع منها السفر إلى بلدة "د".
                                 جدي
طوال ثماني ساعات أمضيتها في الحافلة باتجاه حلب كنت أحاول ترتيب الأمور في ذهني مبتدئا بجدي الذي هو سبب ما يحدث الآن، ولأوضح لكم أهميته أذكر أنه – حسب روايات أمي رحمها الله – كان يملك في بلدتنا "د" من الماشية ما يسرح به سبعة رعيان، ولكن الزمن غدر به وخسر كل ما يملك.
بالطبع لم تقل أمي وهي ترقع سراويلي كيف خسر جدي ثروته تلك، ولكن أخي الأكبر- عفا الله عنه ورحمه- أكد مرارا أنه خسرها في حلب، ففي إحدى المرات التي نزل فيها لحلب كي يتاجر بالمواشي تعرف في أحد الملاهي الليلية على غانية سحرته بجمالها وعرفت كيف تجعله يقدم لها ثروته تباعا، فكان يقيم عندها بالأسابيع ولا يعود للبلدة إلا ليبيع جزء من ماشيته ويعود بثمنها إلى التي سلبت عقله، وهكذا حتى باع آخر غنمه، وعندما عاد إلى البلدة مفلسا بعد طول غياب، كان ابنه الوحيد الذي هو أبي قد غادر البلدة مع زوجته التي هي أمي، وهاجرا مع طفلهما الذي هو أخي إلى مدينة القامشلي البعيدة جدا، وحيث ولدت أمي بعد فترة من وصولهم للقامشلي طفلها الثاني الذي هو أنا.
قد يستخف أحدكم ما أحكيه عن جدي، ولهذا دعوني أنتقل إلى أهميته كما تبينت فيما بعد، فعندما عاد مفلسا إلى البلدة بعد طول غياب لم يجد مكانا يبيت فيه، لأن أبي كان قد باع داره وغادر البلدة، فأقام جدي في الحاكورة الشرقية المتطرفة عن البلدة بعد أن بنى فيها غرفة طينية مقببة معلنا بأنه سوف يعتزل الدنيا والناس بعد أن أنفق ثروته على أعمال الخير والفقراء في حلب، أو هكذا أشاع هو بين أهل البلدة فصدقوه، وربما بسبب ذلك صاروا يصدقونه ليكتب لهم ( الحجبيات) التي صارت تعطي مفعولها في كل شيء، بما في ذلك فك السحر وجلب الغائب وتحبيب المبغوض.. وكان جدي يتقاضى أسعارا مرتفعة لحجبياته مضمونة المفعول، لا لنفسه، ولكن لينفق ما يجمعه على أعمال الخير والفقراء في حلب، ولهذا كان كلما جمع مبلغا محترما يسافر لحلب، ولا داعي لأن تحرجوني فأذكر لكم أين كان ينفق المال.
                                  القبة
عندما قرر أبي في القامشلي السفر للبلدة لتفقد أحوال أبيه، جاءه الخبر بأنه قد مات، ولم يطل الأمر بأبي حتى مات أيضا، أما القبة التي كان يسكنها جدي فقد سمعنا من معلم جاء إلى القامشلي ليعلم فيها وهو من بلدتنا، أنها تحولت إلى مزار يقصده أصحاب الحاجات لأن كرامات جدي التي كان يمنحها للناس عبر (حجبياته) انتقلت إلى القبة التي كان يسكنها، بل إن عددا من عجائز البلدة أثناء مرورهم ليلا قرب القبة رأوا جدي يدخل إليها، وهذا أمر لا يفعله إلا أصحاب الكرامات، وقد نصح المعلم يومها أخي الأكبر بأن يذهب للبلدة ويصبح قيما على القبة لأنها تدر ذهبا بسبب الهبات السخية التي يقدمها زائروها، لكن العرض لم يعجب أخي لأنه لا يستطيع التخلي عن جلسته المسائية اليومية  في خمارة ( أبو الريش )... المهم...بعد وفاة أخي بعد أمي لم تخطر على بالي البلدة ولا القبة، ولولا كرامات جدي التي وضعتني فجأة في هذه المهمة لما تذكرت حتى بأن سجلي المدني مايزال في دائرة نفوس البلدة "د" تلك.

                              الدرويش قبة
منذ وصولي لحلب بحثت عن مكان الحافلات التي تنقل الركاب إلى بلدة "د"، وأسعدني الحظ بأن أجد مكانا في حافلة صغيرة مهترئة المقائد، كان سائقها منذ انطلاقنا يشتم بتذمر وبصوت مرتفع حالة الركود التي تعيشها البلدة، فلم يعد أحد يسافر هذه الأيام مع أن الوقت هو موسم قطف الزيتون، وبعد أن أشعل لفافة تبغ من النوع الرديء تابع مخاطبا الركاب"
"- هل تصدقون.... خرجت من البلدة بدون ركاب لحلب.. يعني اليوم لم أجمع ثمن البنزين للسيارة".
"- كل الحق على الحكومة.... هي لم تتحرك لنعيد بناء القبة.."
شدتني كلمات الرجل، وقبل أن أستفسر منه عن موضوع القبة أعلن راكب آخر بثقة:
"- يا جماعة.. ابني الشرطي في مديرية الناحية أكد لي أن الحكومة عثرت على مكان حفيد الدرويش قبة وأرسلت تستدعيه، الله أعلم أنه سيصل اليوم".
"- الله يبشرك بالخير يا حج حمدو"
عقب رجل آخر بابتسامة تدل على فرح ركبه وتابع:
"- مدير الناحية البارحة أكد أيضا للمختار بأن حفيد الدرويش قبة في طريقة للبلدة... يا جماعة... الحكومة ليست نائمة... عندما تريد أن تفعل شيئا تفعله حتى لو كان إحضار حفيد الدرويش قبة..."
"- هكذا ياجدي؟! صار الآن اسمك الدرويش قبة!!"
تساءلت في سري وأنا أخفي رغبة عارمة انتابتني بأن أضحك وهممت بأن أعلن شخصيتي للركاب، وبأنني حفيد درويشهم الذي ينتظرونه، ولكن فضلت الصمت لأكتشف المزيد مما فعله جدي بهؤلاء.
-                   يا جماعة...
قال أحد الركاب، كأنه يجلب الانتباه لقرار حاسم اتخذه، وبعد أن اطمئن إلى أن الجميع ينتبهون إليه تابع بنوع من الصرامة:
"- بعد أن يأتي حفيد الدرويش قبة يجب أن لا نتركه يغادر البلدة، إن انهيار القبة إشارة لنا من الدرويش قبة بأننا يجب أن نحتفظ بحفيده بيننا".
استحسن الركاب الفكرة، وعلق أحدهم عليها قائلا:
"- الحق مع الدرويش قبة يا شباب، منذ عشرين سنة ونحن نستفيد من بركات القبة بعد موته ولم نفكر يوما بالبحث عن حفيده مع أنه موجود في مدينة الحسكة".
"- بل في مدينة القامشلي..."
صحح له أحد الركاب معلوماته التي لم يجدها السائق صحيحة فاعترض بثقة:
"- الله أعلم أنه في مدينة الرقة، أحد زملائي السائقين ذكر لي أنه رآه في الرقة".
وهكذا استمر الحديث بين الركاب عني وعن جدي حتى وصولنا للبلدة.
لقد حمدت الله؛ لأن أحدا من الركاب لم يولني أي اهتمام طوال الطريق، فقد كانوا مشغولين بالحديث عني، وعندما نزلت من الحافلة في ساحة البلدة اتجهت فورا لمبنى مدير الناحية الذي أعتقد أنه أصيب بما يشبه الصدمة عندما دخلت مكتبه وعرّفته بنفسي، ولولا كتاب السيد مدير المنطقة في القامشلي الذي زودني به لما صدق أنني الذي ينتظره..
"- عفوا... عفوا يا درويش... من لا يعرفك يجهلك..."
قال ذلك مرحبا بي بعد أن قرأ كتاب مدير المنطقة، فقاطعته وبنوع من النزق:
"- اسمع يا سيدي... لست درويشا، ولا أعرف أي جنون أصاب الناس هنا... كل ما أريده هو أن أؤدي المهمة التي كفلني بها صديقي مدير منطقة القامشلي هنا وأعود لبيتي..."
لم يفاجأ بكلماتي، فمظهري يدل على أنني سأقولها، فضحك وهو يقدم لي لفافة تبغ وقال:
"- جيد.... هذا سيسهل عملنا يا... أستاذ.. الناس ينتظرون قدومك لتذهب معهم وتتشرف على إعادة بناء قبة جدك، وسوف أرسل فورا للمختار أعلمه بوصولك، نريد أن ننتهي من هذه المشكلة اليوم...                                                                                                                                                                           الإشارة
بعد أن أرسل مدير الناحية حاجبه لإعلام المختار بوصولي انهمك بمشروع روايته لي عن ذكرياته في القامشلي التي خدم فيها في بداية عمله بالشرطة، ولكن قطع عليه حديثه أصوات هتاف وضجيج متأتية من الخارج، وتخلله دخول الحاجب وهو يعلن بانهماك:
"- أهل البلدة متجمهرون خارج المبنى يا سيدي، لقد علموا بوصول حفيد الدرويش قبة". تملكني خوف كبير وأنا أسمع الضجيج والهتافات تزداد في الخارج، وفكرت بأن أبقى في مكاني، لكن مدير الناحية وقف بقلق وهو يشير لي قائلا:
"- انهض يا أستاذ... يبدو أن البلدة كلها قد جاءت... دعنا نرافقهم لإعادة بناء القبة". تقدمت بتردد ملتصقا بمدير الناحية، وما إن خرجنا من الباب حتى تملكتني الدهشة، فقد كان هناك المئات من الرجال والأطفال والنساء، وبعضهم يحمل أعلاما ملونة. وما أن رأوني حتى شكلوا ما يشبه الموج وهم يتدافعون صوبي بهستيريا حقيقية محاولين لمسي، لكن الشرطة الذين شكلوا ما يشبه الحاجز أمامي منعوهم من الوصول لي في حين كنت أزداد التصاقا بمدير الناحية الذي نجح بعد جهد لا بأس به من جعلهم يهدؤون قليلا، وبعد أن تأكد بأن صوته سيكون مسموعا بينهم قال بلهجة خطابية وبصوت مرتفع:
"- يا أهل البلدة الأكارم... لقد أحضرنا حفيد الدرويش قبة...وهذا يؤكد لكم أن الحكومة، وأنا شخصيا، مهتمون بكم، وسوف نذهب الآن برفقة حفيد الدرويش لنبني القبة، وأرجو أن تذهبوا فورا بعد بناء القبة لجني محصول الزيتون..."
ارتفع الصراخ والهتاف بين الناس من جديد، ثم تقدم أحدهم وصعد الدرجات القليلة حتى صار إلى جانب مدير الناحية، وقال بصوت مرتفع خطابي:
"- باسم أهل البلدة الأكارم نشكر الحكومة ونشكر السيد محافظ إدلب ونشكر السيد مدير الناحية الهمام لإحضارهم الدرويش حفيد الدرويش قبة، وإننا نعاهد الحكومة بأن نكون عند حسن ظنها، وسوف نذهب بعد بناء القبة إلى حقولنا وبساتيننا ونجتث ونحصد الزيتون وننقله للمعاصر ونبيعه للحكومة بأي سعر تريده، ولن تكون الحكومة إلا راضيا عنا..".
صفق الجميع مهللين لخطاب الرجل الذي بعد أن تأكد من طول فاصل التصفيق تابع:
"- نعم... سنبني القبة، ولكن قبل أن نباشر ببنائها نريد الإشارة من الدرويش حفيد الدرويش".
"- أي إشارة تريد يا مختار... هو ذا حفيد الدرويش أمامكم...".صرخ مدير الناحية بغضب واضح، فرد المختار دون أن يبالي بغضب مدير الناحية:
"- الدرويش قبة كان يمشي على ماء النهر دون أن يغطس فيه، وحفيده يجب أن يكون مثله... سنحمله للنهر ليمشي فوقه مثلما كان يفعل جده..."
"- يا إلهي... إنهم يريدون رميي في النهر!! أنا لا أجيد السباحة..".
صرخت مستنجدا بمدير الناحية الذي احتار كيف يتعامل مع هذا الأمر المستجد، وقبل أن يصل إلى تدبير ما، كان الناس الذين قد بلغوا أقصى حالات الهستيريا قد اقتحموا حاجز رجال الشرطة ووصلوا إلي، وحملوني فوق أكتافهم وهم يهتفون ويهللون، واتجهوا فيما يشبه المظاهرة الضخمة نحو النهر.
مرت لحظات لا أعرف ماهيتها، فقد كنت أصرخ برعب شديد، وأعتقد أنني فقدت وعيي، وأنا فوق أكتافهم، لأنني لم أشعر بنفسي إلاعندما وجدت نفسي مرميا بمياه النهر.
                                   ياجدي..
أعتقد أن بركات جدي لازمتني بعد رميي في النهر، فأنا الذي أغرق في شبر ماء كما يقال، انتبهت على نفسي مع غياب الشمس محشورا بين أشجار الصفصاف على ضفة النهر في مكان بعيد عن البلدة، وقد نجحت بجر نفسي إلى الضفة مفرغا كميات المياه الكبيرة التي ابتلعتها، وبقيت لمدة ساعتين تقريبا مستلقيا غير مصدق أنني قد نجوت بعد أن جرتني مياه النهر كل هذه المسافة.
حمدت الله أن الليلة كانت مقمرة حيث استطعت تفقد حافظة نقودي وتجفيف ملابسي، ولا أذكر  أنني غفوت فقد كنت أفكر بكيفية الوصول إلى الطريق العام وركوب أول سيارة عابرة تنقلني إلى حلب، لذلك مع أول ضوء الصباح اتجهت إلى الطريق العام منتظرا بقلق سيارة ما متجهة إلى حلب، وما هي إلا دقائق حتى لاحت لي سيارة نقل ركاب قادمة من جهة البلدة خمنت أنها ذاهبة لحلب.
"- يا إلهي... ماذا لو عرفني أحد الركاب؟ عندها سيعيدوني للبلدة ثانية".
تساءلت بقلق وأنا أشير للسيارة كي تتوقف، وعندما صعدت إليها خبأت نصف وجهي بكفي متظاهرا بأنني أشكو من آلام ما في أسناني، وحشرت نفسي بسرعة في آخر مقعد حيث تملكتني رغبة عارمة للنوم.
"- يعني لم يجدوه حتى الآن؟".
سأل السائق الراكب الذي يجلس بجانبه مكملا حديثا سابقا بينهما، فرد الراكب بثقة:
"- ولن يجدوه مدير الناحية عنيد... لقد استدعى فرق غطس من إدلب بحثت طوال الليل عن جثة حفيد الدرويش... عبثا حاولنا إفهامه أن حفيد الدرويش لم يغرق، بل هو جالس في أعماق النهر وسيظهر متى أراد هو...".
"- نعم.. نعم.."
عقب راكب ثالث وتابع بتأكيد ورهبة:
"- جده الدرويش قبة كان يغطس في النهر ويختفي في أعماقه لمدة شهر ثم يظهر فجأة من نفس المكان الذي غطس فيه، والحفيد يحمل سر جده يا جماعة".
عندئذ لا أعرف لماذا  وكيف أطلقت ضحكة مدوية جعلت جميع الركاب ينتبهون إلي باستغراب، وما زلت أضحك حتى الآن وأنا أنادي: يا..جدي..

لماذا يكرهون اليابان لأنيس منصور

لماذا يكرهون اليابان؟
العامل كله يتفرج على عجائب الصناعات اليابانية، ويريد أن يفهم.. أو أن يعرف سرّ هذه العظمة العلمية والصناعية، ولكن اليابانيين يضحكون دائما ولا يقولون شيئا. ويكون هذا السكوت دافعا قويا لأن يحاول العالم أن يفك طلاسم التقدم العلمي الباهر لشعب في المائة سنة ماضية..
فما هي المعجزة اليابانية؟
بالضبط، ما هذا الذي حققته اليابان/ألمانيا الآسيوية؟
كيف أن شعبا بدأ تطوره وحركة تنويره معنا، نحن المصريون، ثم هو يتقدمنا وغيرنا من شعوب العالم مئات السنين.. كيف فعلها؟ ولا يزال يتقدم الشعوب الأوروبية والأمريكية.. إن اليابانيين لا يقولون شيئا، ولايعترضون على أي شيء يقال عنهم..
يقال إن المعجزة اليابانية: هي الصبر.
ويقال: إنه التماسك العائلي.. فالشركة أو المصنع هو عائلة يعيش فيها كل واحد ويموت ولا يخرج منها ولا يخرج عنها.. فالعامل الذي يعمل في إحدى الشركات لم يحدث أن أن تركها أو فصلوه منها.. قبلت شركة منافسة عاملا أو مهندسا كان يعمل في شركة أخرى.. فهو إذن يولد ويعيش ويموت في شركة واحدة، هي التي تعلمه وتزوجه وتعالجه وتزوج أولاده وأحفاده..
ولا يستطيع أي إنسان في العالم أن يكون له مثل هذا السلوك الياباني.. ولا يطيق أحد هذه "التبعية" المطلقة لشركة أو لمصنع. ولكنهم في اليابان يقبلون ذلك ولا يريدون غيره.. فهل هذا هو سرّ العظمة اليابانية؟ إذن فما سرّ العظمة الألمانية؟ ما سر الشعب الذي مسح به الحلفاء الأرض وما تحت الأرض فقام جبارا قويا عنيفا.. أعظم وأروع من الروس والأمريكان والإنجليز والفرنسيين الذين احتلوه وأهانوه وأذلّوه!
لقد احتج 14 ألف أستاذ في علم النفس الاجتماعي والصناعي في العام الماضي، والتفتوا إلى الدنيا من حولهم، واتخذوا قرارا. القرار: إن العالم كله يكره الشعب الياباني، هذه حقيقة. يعجب به ولكن لا يحبه. السؤال: لماذا يكرهنا العالم كله؟
هذه هي القضية التي التفّ حولها كل أستاذة علمي النفس والاجتماع وخبراء الصناعة والزراعة والتجارة والإعلان.. والمطلوب هو معرفة: لماذا؟
يتساءلون هل لهذه القضية ما يبرّرها؟ وإن كانت الكراهية لأسباب حقيقة، فكيف نكسب العالم الذي خسرناه؟... وهل يستطيع الشعب الياباني الذي أكد عبقريته في إبهار الناس وغزو الأسواق وخراب بيوت كثير من المصانع المنافسة لليابان... هل هذا الشعب يستطيع أن يكون عبقريا في محبة الناس – أي في جعل الناس يحبونه.. هل تستطيع اليابان أن تخلق الحب لها في العالم.. هل يمكن "تخليق" الحب.. هل يمكن تصنيع الحب لكل ما هو ياباني.. وكم يتكلف الحب؟
أما الكراهية فقد كلفت الشعب الياباني عرقا ودموعا ودما وموتا مائة عام وزيادة.. فهل اليابان في حاجة إلى مائة سنة أخرى لكي يكون حبها عالميا كما أن الإعجاب بها عالمي أيضا؟
فاليابان أرض ضيقة وأناس كثيرون.. وليست في بلاد اليابان موارد طبيعية.. ربماكان الماء –المحيطات، وقد استخرجوا منه السمك واللؤلؤ.. أما اللؤلؤ فقد اخترعوا له حلا سريعا لنموه.. فبدلا من أن ينتظروا قواقع اللؤلؤ تنمو فيها حبات اللؤلؤ سنة بعد سنة.. إلى خمس سنوات.. فإنهم وضعوا في داخل محارة اللؤلؤ نوعا من الكرات الصغيرة المصنوعة من محارات أسماك أمريكية.. هذه الحبات الصغيرة يجيء حيوان للؤلؤ ويفرز حولها المادة الفضية في سنة..أو أقل.. وهذا هو اللؤلؤ المزروع.. وقد كنت أول عربي يرى مزارع ومصانع اللؤلؤ سنة 1959م في مدينة توبا.. وقد تطورت زراعة اللؤلؤ فهم الآن يتحكمون في حجمه وفي لونه.. ودرجة شفافيته.. ولا يملك حيوان اللؤلؤ إلا أن يطيع.. وقد ابتكر هذه الطريقة البسيطة العبقرية رجل اسمه ميكو موتو.. وهو اسم على أكبر محلات ومزارع اللؤلؤ في العالم..
أذكر أنني قابلت أحد أحفاده في طوكيو وأبديت إعجابا ساذجا بزراعة اللؤلؤ، فكان الحفيد ينحني ويتراجع ويشير إلى الوراء.. ولم أفهم معنى الانحناء مع الإشارة. أما الانحناء فهو الأدب الياباني التقليدي في الشارع وفي البيت وأنت تتناول العشاء مع أي أحد.ز أما الإشارة باليد فهي إلى تمثال مصنوع من حبات اللؤلؤ لجده السيد ميكوموتو..
وقد برع اليابانيون في كل شيء كما برعوا في زراعة اللؤلؤ.. أخذوا من أوروبا وأمريكا وطوّروا وأضافوا وأبدعوا.. ونافسوا كل الدول التي سبقت اليابان في كل هذه الصناعات..فالأمريكان –مثلا- اخترعوا الترانزستور واليابانيون طوّروه وجعلوا سعره أرخص ولا نهاية لأشكاله وألوانه.. وقاموا بغزو شامل كاسح لكل أمريكا وأوروبا.. وكذلك التليفزيون والمسجلات والساعات والكاميرات والعدسات والسيارات.. والآن سفن الفضاء والصواريخ.. وأدوات التجميل والموضات وكل الأجهزة الطبية والإلكترونية..إلخ.
ولايزال علماء النفس يبحثون ويتساءلون إن كان هذا هو السبب في كراهية الناس لهم، أي كراهية الناس لمن يعيش معهم تحت نفس السماء وفي نفس المحيط وفجأة يسبق الجميع سرا ودون أن يدري أحد كيف حدث ذلك.
كيف كانت البداية؟
البداية كانت معنا.. فعندما كان رفاعة الطهطاوي ومن بعده علي مبارك يدرسان في فرنسا ويترجمان الدستور الفرنسي والنظريات الاجتماعية والسياسية، ويقارنان بين حضارة الإسلام وحضارة المسيحية وينقلان كل ذلك إلى مصر وفي حالة انبهار أدبي وفكري، كان اليابانيون يرتادون أوروبا وأمريكا بحثا عن سر تقدم الغرب لكي يتقدموا مثل الغرب ويتقدموا على الغرب أيضا.. لقد كانت ثورة!
والثورة اليابانية هي الثورة الوحيدة في تاريخ الإنسان في كل العصور التي قامت وتحققت دون إراقة دماء.. الثورة الفرنسية كان فيها إعدام وإحراق ودم.. والثورة الأمريكية عرفت الدماء والنار والدخان.. والثورة الروسية أعدمت عشرات الملايين، إلا ثورة اليابان، فلا قطرة دم واحدة.. ثم إنها ثورة بمعنى الكلمة: تغيير جذري للنظر إلى الحياة، وأدوات الحياة.. وتعديل نهائي في مسار علاقات الإنتاج وشكل الإنتاج وقفزة بعيدة جدا باليابان إلى بداية خط السباق مع الغرب وبمنتهى الجدية والتركيز الشديد والتضحية اللانهائية.. كثير من العرق والدموع ولا نقطة دم واحدة!
وقد بدا كل شيء يتغير في اليابان من حادثة واحدة. فوجئ أبناء طوكيو بسفينة حربية كبيرة، السفينة نزل منها رجل طويل أبيض أحمر. يرفع العلم الأمريكي ويريد أن يتحدث مع أي أحد مسؤول، فلم يتحدث إليه أحد. فهم لايفهمون كيف جرؤ هذا الأجنبي على أن يلوّث المياه المقدسة لليابان. ولماّ لم يجد القائد الأمريكي أحدا غادر المياه اليابانية ليعود إليها بعد عام- أي سنة1854م. ولم تكن سفينة واحدة، وإنما أربع سفن وعلى ظهرها 560 بحارا.. يريد مسؤولا يتحدث إليه.. ويقدم إليه هذه الهدايا الكثيرة من فساتين السيدات والمجوهرات والأحذية والأطعمة الأمريكية.. ويريد أن تسمح اليابان للأسطول الأمريكي بأن يتزود بالماء. وإذا مرض أحد من البحارة، فلتسمح له اليابان بالعلاج.. وهو في نفس الوقت يطلب التبادل التجاري بين البلدين.. يبيع سلع أمريكا ويشتري سلع اليابان.. ومن حق الأسطول الياباني – إن كاد هناك – أن يذهب إلى الشواطئ الأمريكية ويتمتع بنفس المزايا. ووجد أحدا، واتفق معه وغادر المياه المقدسة.
ولكن دهشة الشعب الياباني لم تنته: السفينة وحجم السفينة.. وأجهزة السفينة وملابس الجنود والضباط وطعامهم.. وأدوات الأكل والشرب.. كل ذلك لم يكن يصنعه أو تخيل لحظة أنه قادر على ذلك.. ولم تنته الدهشة.. ولم تنته الصدمة الحضارية.. كأن السفينة الأمريكية مليون لغم عائم انفجر فانفتحت رؤوس الناس وعيونهم وانطلق خيالهم إلى بعيد، ما هذا؟ كيف هذا؟ لماذا؟ أين نحن وأين هم؟ وكيف السبيل إلى هذه الحضارة الجديدة؟!
ولا يزال علماء النفس يتساءلون إن كان هذا الحادث العابر هو الذي جعل العالم كله يحقد على الشعب الياباني وحسه المرهف وخياله اللانهائي الذي تأثر بحادث عارض فثار على القديم كله وابتدع الجديد.
ودخل الأمريكان والأوروبيون إلى بلاد اليابان وطلبوا معاملات ممتازة، وذاق اليابانيون المرّ أشكالا وألوانا بسبب هذه الامتيازات- التي تجرعناها نحن أيضا في مصر وفي نفس الوقت..
وبسرعة أوفدت اليابان عددا من المثقفين إلى أوروبا وأمريكا، ليروا ويفهموا ويعودوا لكي يعلموا الشعب الياباني.. ذهبوا إلى أوروبا وعاشوا.. ورأوا وكتبوا وفهموا وناقشوا وقرروا.. أما الذين ذهبوا إلى أمريكا فلم يبهرهم شيء هناك، فقط عندما حضروا إحدى الحفلات وجدوا الرجال يقفون أمام النساء.. ثم تنهض المرأة والرجل يلف يده حول خصرها وترقص هي وهو على أطراف الأصابع مع الموسيقي.. ساعة وراء ساعة. كان ذلك أعجب ما شاهدوا في الدنيا.. كيف يتقارب الرجل والمرأة هكذا علنا؟! كيف يعانقها علنا ويراقصها علنا ويتلامسن أثناء الرقص؟ هذا ما لايمكن أن يحدث في اليابان.. فالمسافة بين الرجل والمرأة كبيرة جدا.. والكفلة لا يمكن أن تزول هكذا.. ولا المسافات.. أما كل الذي رآه في أمريكا فيمكن تقليده وتنفيذه.. إلا هذا الرقص فيحتاج إلى عشرات السنين لتغيير سلوكيات وتقاليد اليابان..
ولم يشغلهم الرقص كثيرا..
ولكنهم عادوا ببرنامج عمل بسيط جدا.. هو الثورة الحقيقية.. بل الثورة الوحيدة البيضاء الباهرة في تاريخ الإنسان.. لأنها غيرت كل شيء حتى وصلت باليابان إلى ما هي عليه الآن.. فماذا فعل هؤلاء المثقفون.
أولا: استدعوا عددا من الإنجليز لكي يعلموهم صناعة السكك الحديدية والتليفونات.
ثانيا: وعددا من الفرنسيين ليصنعوا لهم دستورا جديدا.
ثالثا: طلبوا من الألمان أن يعلموهم بناء المستشفيات وصناعة الدواء.
رابعا: من الأمريكان أن يقيموا لهم المدارس ويضعوا لهم البرامج التعليمية..
خامسا: طلبوا من الإيطاليين أن يعلموهم الرسم والنحت والموسيقي.
وجاء هؤلاء الخبراء إلى اليابان وأقاموا سنة وسنة أخرى.. وعلموا مئات اليابانيين. وودعهم اليابانيون بانحناء عميق وامتنان عظيم.. ثم أقفلوا على أنفسهم المصانع والورش والمدارس.. وبدأت اليابان تغير حياتها وأسلوبها وموقعها على خريطة الدنيا.. ويكفي أن نعلم أن اليابان هي أول دولة استخدمت اللاسلكي في الحرب سنة 1904م اللاسلكي الذي تعلمته من بريطانيا.. فقد رصدت اليابان حركات الأسطول الروسي الذي اتجه يضرب اليابان في مياهها.. فرصدوا تحركات الأسطول الروسي باللاسلكي.. أحرقوا 27سفينة روسية. وكان ذلك أعظم إعلان عن اليابان الجديدة..
هذه هي كل أسرار النهضة اليابانية.. التنوير الياباني.. لا أسرار ولا ألغاز.. وإنما هم أناس رأوا الغرب، ودرسوا وحللوا، وقرروا وصمموا، فكانت ثورتهم على أنفسهم في كل شيء!
فهل هذا معقول؟
نعم هذا هو المعقول في الفكر الياباني، والثورة الجبارة الهادئة التي دفعت اليابان إلى الأمام في كل المجالات. في السلام وفي الحرب.. وفي الأرض وفي الفضاء.. فغزوا كل الأسواق بلا منافس.. ولم ينافسها أحد إلا تغلبت عليه..
أليس من الطبيعة أن يكرهها العالم؟
فكيف طبيعيا أن يحبها العالم؟ هذا ما يبحثه منذ العام الماضي ألوف علماء النفس والصناعة والزراعة والطب في كل الجامعات اليابانية لعلهم يخرجون بوصفة جديدة للحب.. يمكن تطبيقها وتشريعها.. أي المطلوب هو أن يضعوا "حجاب المحبة والقبول" للشعب الياباني عند العالم كله، هل هذا ممكن؟ اليابانيون يقولون إنه ممكن.. ولابد أن نصدقهم.. فالذي فعلوه في كل المجالات يقنعنا بقدرتهم الفذة على صنع المعجزات.. وإذا كانوا قد صنعوا المعجزات التي أوغرت عليهم قلوب الدنيا، فيس بعيدا أن يصنعوا ما يجعل القلوب تحبهم..
ممكن؟
إنهم يؤكدون أن هذا ممكن..!

جعلنا رمضان ملحمة لأنيس منصور

جعلنا رمضان ملحمة!
شهر رمضان في السعودية له مذاق مختلف. الحياة في السعودية تبدأ بعد صلاة العشاء. كل الناس يخرجون يتزاحمون في الشوارع، والسيدات في المحلات التجارية. ويسهرون ويسهرون حتى يطلع النهار أو قبل ذلك بقليل. وطبيعي أن يناموا حتى العاشرة.. وقليلون حتى الظهيرة.. وأقل حتى قبيل المغرب.
وإذا طلبت أحدا في التليفون وقيل لك: إنه خرج.. فمعنى ذلك أنه نائم فلا تغضب أو لاتسئ الظن به. فهذه عادات استقرت. وليس في استطاعتك ولا من حقك أن توقظ النائم، وأن تفسد عليه حياته، لمجرد أنك جئت إلى السعودية في إجازة  قصيرة.
أما عن الجو فكان حارا. والشمس حارقة – إنني أتحدث عن جدة، أما الرياض فقد كانت شديدة البرودة، أما مكة فهي حارة رطبة – إنني أتحدث عن الحرم المكي فقط.
أما المدينة، فهي محتملة نهارا وليلا. ومع أنها باردة فإن الإنسان لا يشعر بذلك،  أو لا يريد أن يشعر بذلك. ففي المدينة هدوء وصفاء ونقاء. ولها من اسمها نصيب، والمدينة لها تسعون اسما.. وأبغض اسمائها إلى الرسول – عليه الصلاة والسلام – هو: يثرب؛ لأنه يحمل معنى الخطـأ!
وكل ذلك يهون، إلا الطعام، ولا أحد يشكو من الطعام إلا قليلون، أنا واحد منهم. وشكواي: أن الطعام كله من اللحم أو أنه أقرب إلى ملمس اللحم ورائحة الدهن، فاللحم له رائحة قوية، هذه الرائحة قد أغرقت كل شيء.. وكم من مرة حاولت أن أذوق الأرز وأمرّ به إلى قرب أنفي، قبل أن أضعه في فمي.. فكانت له رائحة الدهن.
نسيت أن أقول إنني نباتي.. ووجدت رائحة اللحم في الصلصة وشوربة العدس وفي الحلويات أيضا. ولم أشأ أن أسأل أحدا عن ذلك.. فالناس سعداء بالأكل الوفير في موائد الفنادق الكبرى. وفي البيوت أيضا.
ولذلك فإنني أتجه مباشرة إلى الفول، وإلى الليمون والشطة، ولكي أخفي أية رائحة اللحم في الفول..أو لكي ألسع لساني بالشطة، فيصبح عاجزا عن تذوق أي شيء أو التفرقة بين اللحم والفول والعدس والبصل.
حاولت أن أسأل أحد الخواجات، الذي يستمتع مثلنا بتنوع أصناف الطعام، ولايشرب إلابعد آذان المغرب، احتراما لشعور الصائمين. قلت له بعد أن لاحظت عدم وجود لحم أمامه، وأنت أيضا نباتي!
فأجاب: لا... لماذا؟
-                   لأنني لم أجد أمامك لحما..
-                   سوف يأتي بها الجرسون حالا..لأنني أفضّل اللحم وحده على بقية الأطعمة الموجودة.. وهذا هو الأصح..فهناك نظرية في أمريكا: إن الإنسان ينقص وزنه، إذا أكل طعاما واحدا.. لحما فقط أو دهنا فقط، أو فولا فقط، كما تفعل أنت الآن.. أو فاكهة فقط..
-                   كلامك مضبوط.. فالناس في مصر يزداد وزنهم في شهر رمضان، لأن مائدة الإفطار فيها البارد والساخن، والحلو، والحادق، والحريف، والأرز، مع البطاطس، مع المكرونة، واللحم مع السمك، والفول، والطعمية والبسارة.. ولا بد من أن يمد الواحد يده إلى كل طبق، لا بد..
ولكن طريقة السعوديين في الإفطار هي الأصح.. فهم يتناولون التمر.. الذي يسد النفس عند الطعام.. ثم يصلون المغرب.. وبعد ذلك يجلسون إلى الطعام، أقل من الذين يجلسون فورا مثلنا ويحشرون معداتهم، بكل ما على المائدة! وسألني الخواجة: وأنت ماذا تفعل في مصر؟!
-                   أنتهز هذه الفرصة لكي أنقص وزني فأملأ معدتي بالشوربة والصلصة، حتى إذا اتجهت إلى بقية الطعام كان نصيبي منه قليلا جدا.. ثم إنني لا أتناول طعام السحور، فهو عبء على المعدة، وغشاوة على العقل، وسلاسل تكبل الإنسان، فلا يبرح الفراش إلى العمل!
-                   إذن أنت سعيد بذلك!
-                   ليس تماما.. فإنني أجد جرحا شديدا، عندما أجد نفسي مدعوا لتناول السحور.. ويكون الناس قد أعدّوا مأدبة لا تختلف كثيرا، عن مأدبة الإفطار، فيكون ذلك في الساعات الأخيرة من اليوم التالي.. وأكتفي بفنجان من الشوربة.. ويكون ذلك محرجا للذين جلسوا، يلتهمون، ويزلطون، ويقاومون النوم.. وأنا وحدي الذي لم أذق شيئا. فأبدوكما لو كنت غاندي وكأنهم وحوش ضارية..
-                   فماذا تفعل؟!
-                   ولا حاجة.. هم يأكلون وأنا أشرب.. هم ينامون وأنا أصحو.. هم ضحايا عاداتهم السيئة في رمضان، وأنا أخرج من هذه الملحمة نسبة إلى اللحم سالما.
والحمد لله!

كلمة أولى لأنيس منصور

كلمة أولى
قال لي السفير المصري: يمكنك أن تأكل أي شيء الآن.. وبعد ذلك تتناول عشاءك معنا، مادمت مصرّا على الصيام.. واسترحت إلى هذا الحل. فلم أجد سببا قويا يمنعني من الصيام ما دمت قادرا. ولم أر غروب الشمس ولم أسمع أذانا من أي مسجد. فمسجد طوكيو بعيد جدا. ولا أعرف ما الذي يفعلونه هنا في رمضان. وإن كنت أتمنى أن أرى وأشارك وأعرف وأكتب بعد ذلك. وحسبت فرق التوقيت بيننا وبين القاهرة فوجدته سبع ساعات.. وسألت عن غروب الشمس.. فوجدت أن أمامي نصف ساعة. وجلست أفكر في الطعام والشراب. أما الشراب فأعرفه تماما. إنه كوب شاي ساخن. وفتحت الثلاجة الصغيرة فوجدت بها مشروبات كثيرة وبعض الشيكولاتة والبسكويت. ومددت يدي إلى التليفون أطلب أي سندوتشات جبنة. ودار الحوار بيني وبين الجرسونة.. هي تسأل: تريد سندوتشات؟
-       نعم.
-       كم عددها؟
وتذكرت أنني في اليابان فكل شيء عندهم صغير. فإذا قلت لها: سندوتشات فسوف يكون في حجم علبة السجائر.. وإذا طلبت منها سندوتشا كبيرا فسوف يجيء في حجم الكف وأنا ميت من الجوع.. فقلت لها: أكبر سندوتش عندك.. واحد.. اثنين.. ثلاثة..
-       يعني كم؟
-       يعني ثلاثة سندوتشات كبيرة محشوة بالجبن.. كثير من الجبن..
-       هل عندك طماطم؟
-       طازة؟... كم واحدة.
-       هل هي صغيرة أو كبيرة؟
-       صغيرة.
-       خمس حبات.
-       هل عندك ليمون؟
-       زجاجة؟ - لا..
-       عصير ليمون طازة.
-       لا أفهم..
-       مش مهم.. مش عاوز ليمون هذا يكفي. شكرا. وطلبتني تسألني: هل أريد السندوتشات؟
-       نعم.
-       ولكنك شكرتني من دون أن أعرف..
-       شكرتك طبعا.. فماذا فهمت أنت؟
-       ظننت أنك شكرتني على الحديث معك ومحاولة التفاهم..
-       يا ستي هات أي حاجة في عرضك أنا صايم.
-       ماذا تقول؟
-       لم أقل أي شيء.. أريد السندوتشات بسرعة..
-       بسرعة يعني بعد كم من الوقت.
-       كم تحتاجين من الوقت؟
-       ساعة!
-       يا نهار أسود. هات السندوتشات من غير جبنة. أو هات الجبنة من غير سندوتش ممكن؟
-       لم أفهم..
-       أين أنت؟
-       في المطعم.
-       وأين هذا المطعم.
-       في الغرفة11370
-       وأين هذه؟
-       في الدور الحادي عشر..
-       وكيف أصل إليك..
قالت: أن آخذ الأسانسير إلى الدور الخامس.. واتجه إلى اليمين، ثم آخذ الأسانسير إلى الدور الثامن.. ثم اتجه إلى اليسار، وآخذ الأسانسير إلى الدور الحادي عشر.. وسوف أجدها في انتظاري..
سألتها: وكم أحتاج من الوقت لكي أصل إليك؟
-       نصف ساعة!
وسألتها: لو أنت جئت فكم تحتاجين من الوقت؟
قالت: ساعة تقريبا. فصرخت: لماذا وأنت تعرفين الطريق أكثر مني
-                   نعم.. ولكن لا بد أن أسجل كل ذلك في الأوراق ثم إن هذا النوع من السندوتشات ليس موجودا هنا.. يجب أن أذهب إلى الفرن..
-                   لماذا؟ لأننا لا نتناول هذه الكميات الكبيرة من الطعام.. إنها تكفي لعشرة من اليابانيين وأولادهم!
-                   يا بنتي أنا جائع جدّا.. هات لي سندوتشا واحدا. كم تحتاجين من الوقت؟
-                   ساعتين.
-                   لماذا؟
-                   لأنني يجب أن أذهب إلى الفرن وألغي طلباتك كلها. وأكتب اعترافا رسميا بأنها غلطتي.. وأنا اللي فهمتك خطأ.. وأكتب أنا مستعد لأن أدفع ثمن هذه السندوتشات. فهي غلطتي.
-                   وإذا عدلت عن هذه السندوتشات. وقررت أن أدفع هذه الغرامة نيابة عنك..
-                   هذا مستحيل. أنا غلطانة ويجب أن ألقي جزائي!
-                   وأنت وما ذنبك؟
-                   أنا فهمت غلط. وقد طلبت مني الإدارة من ستة شهور أن أتقن اللغة الإنجليزية. فكذبت عليها وقلت إنني أتقنها!
-                   يمكن أنا اللي لغتي الإنجليزية ضعيفة. ولذلك أنت لم تفهميني!
-                   الزبون على حق دايما يا سيدي! وأرجوك ألا تفعل شيئا من أجلي حتى لا يساء فهمي. وحتى لا تظن الإدارة أنني رجوتك أن تفعل ذلك.
-                   ولكنك لم تطلبي مني شيئا؟
-                   أنا فقط التي تعرف ذلك.
-                   وإذا فعلت؟
-                   فسوف يلقون ملابسي من النافذة.
-                   في اليابان يفعلون ذلك؟
-                   ولكني لست يابانية!
-                   ..................
وانسدت نفسي وضرب المدفع في القاهرة وتوالي صوت الأذان في كل الدول الإسلامية.. وأكلوا وشربوا وناموا وقاموا يستعدون لتناول السحور.. وأنا لم أذق لقمة واحدة، ولا في نيتي أن أفعل ذلك بعد الذي حدث!
وفي حياتي حكايات أخرى أعجب وأغرب.