الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

تأثر الأدباء العرب بالأدب الغربي وتأسيسهم المدارس الأدبية العربية الحديثة

محمد شافع الوافي
بقلم محمد شافع الوافي 
 باحث في مركز الدراسة العربية والإفريقية ـ جامعة جوهرلال نهرو

             يهمني في هذه المحاولة المتواضعة الكلام حول "تأثر الأدباء العرب بالأدب الغربي وتأسيسهم المدارس الأدبية العربية الحديثة" ومثل هذا التأثر الأدبي بين أدبين عالميين ليس بأمر نادر في مستوى العالم الأدبي ولا يحدث ذلك بوحدته يعني لا يحدث حدوثا مستقلا بل هو قد يكون تابعا للتأثرات الأخرى وقد يكون مسببا اياها فكثيرا ما يكون هو سببا أساسيا في إشعال فتيلة الثورات والنهضات العالمية وفي أحيان كثيرة توجد آثار الثورة والنهضات الملتهبة تؤثر في مستوى العالم الثقافي.
              وقد تجاوز الأدب العربي مراحل مختلفة في رحلته الطويلة بادئا بالعصر الجاهلي ومتجولا في العصر الاسلامي والعصر الأموي والعصر العباسي والعصر التركي وغيرها ثم وصل الى مرحلته الهامة في العصر الحديث. اما التغيرات التي تعرض لها  الأدب العربي الحديث فكانت تحدث ببطئ وتأن فلا نجدها الا مبعثرة في زواياه واحدة واحدة. وكانت هذه العملية - عملية التغير والتغيير - تجري في رعاية عدة من المدارس الأدبية. أحب هنا تناول بعضها المهم بالإيجاز وهي مدرسة المحافظين ومدرسة الديوان ومدرسة المهجر وجماعة أبولو ومدرسة الشعر الحر.

مدرسة المحافظين:-
               حاولت هذه المدرسة أن تقف بمثابة الإلتفات إلى حرَكة البَعث والاحياء والتجديد في مستوى الشعر العربي والإعراض عن التقليد والتصنيع واللعب بالمحسنات بدون أي طائلة تحته. ومن أبرز روادها أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وأحمد محرم ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وعبد المحسن الكاظمي ومحمد عبد المطلب وعلي الغاياتي. أما تسميتهم بالمحافظين فهي لأجل استطاعتهم أن يحافظوا على المقومات الصياغية وعلى الشكل الهيكلي للقصيدة الشعرية كما كان هي في عصور ازدهار الشعر العربي واشراقه وعلى الروح العربي المتميز بتراثه الفني الحضاري. ولعل هذا التمسك ترك هذه المدرسة بدون قوانين أساسية وقواعد مستقلة يراعيها ويتقلدها الأجيال الجدد من الأدباء. ونتذكر هنا شاعر النيل شاعر العربية الذي بكى في أمر اللغة العربية هو شاعرنا حافظ ابراهيم. وقد نال هذا الشاعر شعبية واسعة لنشأته في داخل المجتمع واحساسه بمعاناتهم  ومكابداتهم ثم لتعبيره عن هموم الطبقات السفلى في أشعاره. وقد أتى الشاعر جميل صدقي الزهاوي بشيء جديد هو التمرد الميتافيزيقي كما يمثله ديوانه "النزغات".
وقد اتسمت هذه المدرسة بروح التجديد الناشئ من خلال التحسين في صياغة القصيدة والتزيين في موسيقاها بنوع من الدماثة والرقة والتحويل في مضمونها بالانتقال من مخاطبة الأمراء الى مخاطبة الشعب وبتناولها شؤونه وهمومه فأصبحت هذه المدرسة ميدانا كافيا لنشر الإتجاهات الوطنية والدعوات الإصلاحية والقضايا الجماهرية.

مدرسة الديوان:-
              ما أتت به وأحدثته مدرسة المحافظين لم يكن مقنعا قلوب الجيل الجديد من الأدباء بحيث لم تقدم لهم نموذجا لامعا تتلألأ فيه روح العصر - عصر التجديد والنهضة. وهذا النقصان فتح باب السلطان لمدرسة الديوان. وجرت هذه المدرسة - مدرسة الديوان تحت قيادة الثالوث الذين وسعوا ثقافتهم بثقافة الأدب الغربي والإنجليزي منه بشكل خاص. هم عباس محمود العقاد وابراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري.
                وظهر نتاجها الأول حيث أخرج شكري الجزء الأول من ديوانه بعنوان (ضوء الفجر) في عام 1909 بما فيه من الثورة على الشعر العربي القديم والحديث شكلا ومضمونا والدعوة الى الانحياز للوجدان والتأمل في الكون ثم جاءت في اثره عدة دواوين من قِبلهم حتى كان لهم في سنة 1919 سبعة دواوين. وفي عام 1921 أخرج العقاد والمازني كتابهما المشترك "الديوان" وهجما فيه بدون أي رحمة ولا شفقة الأدباء المشهورين مثل شوقي وحافظ والمنفلوطي وقد واصل العقاد هذا الطريق حتى وفاته في عام 1964
              وثارت هذه المدرسة من هذا المضمار على نظام القصيدة الطويلة ذات النسق الموحد ودعت الى شعر المقطوعات وشعر التوشيح وشعر تعدد الأصوات وقد تمرد شكري على القافية بوجه متشدد بحيث ألغاها في عديد من قصائده حتى راد بذلك حركة (الشعر المرسل). وقد تمردت على محدودية الفضاء الذي كانت القصائد تتضيق وتنحصر فيه كما تمردت على محدودية الطموح بدعوة الشعراء الى الإنتاج فوق اليوم الذي يعيشونه. ودعت الى كون الشعر بوح الكائن الإنساني فكريا ونفسيا ووجوديا.
ودعت هذه المدرسة الى جلاء الموقف الشخصي  في الشعر بحيث تشرق فيه رؤية صاحبه الذاتية وأسلوبُه المتميز ونادت بالوحدة العضوية كما نادت بتحرير اللغة الشعرية من عبودية القوالب الجاهزة والأنماط القبلية. ونلاحظ بوضوح أن أصحاب هذه المدرسة الكبار لم يستطيعوا إلا قليلا تطبيق ما تشدقوا به من أفكار وآراء في واقع شعري ممتاز.

مدرسة المهجر:-
              ومما لا شك فيه أن التبادلات والتأثرات والتأثيرات الأدبية تقع بجدة وشدة وجاذبية عندما يتعايش الأدباء والمفكرون ويعيشون معا ويتفاهمون فيما بينهم. وتكون هذه الحقيقة متضحة أكثر الوضوح في تاريخ مدرسة المهجر.
              منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نزح طائفة من الشباب اللبناني والسوري، الى أمريكا الشمالي والجنوبي فعاش بعضهم في الولاية المتحدة الأمريكية وبعضهم في البرازيل وهذه الحياة المهجرية أيقظت في قلوبهم ذكريات أوطانهم العربية وشحذت أفكارهم الوطنية وطلعت تلوها في أذهانهم مضامين أدبية عربية فبدأوا يخلقون عالمهم الأدبي الخاص من خلال نشر المجلات والدواوين وتأسيس المؤسسات مثل الرابطة القلمية التي تم إنشاؤها في الشمال سنة 1920 والعصبة الأندلسية في الجنوب سنة 1932.
             وكان وراء هذه العمليات والإجراءات الأدبية أيادي عديدٍ من الأدباء العرب الكبار مثل خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيوب وعبد المسيح حداد وندره حداد وشفيق المعلوف والياس فرحات وميشال معلوف ونظير زيتون وغيرهم.
            ويبدو أنهم تعرضوا لكثير من تأثيرات الموشحة الأندُلسية حتى استحسنوا التنويع في القافية والتحرر في توزيع التفعيلات مع بقاء الهيكل العام على نظام ثابت وكانت هذه المدرسة ثورة في الأدب العربي الحديث حيث أشعلوا فتيلة التمرد على قيود القصيدة القديمة وموسيقاها ولغتها وشخصيتها التعبيرية وعلى العَروض الشِعري ونسمع ميخائيل نعيمة يتحدث بصراحة في كتابه "الغربال" ( فلا الأوزان ولا القوافي في ضرورة الشعر، كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة ).
              ونسمع الأديب الناقد خليل جبران يتمرد على اللغة في كلماته التالية (لكم لغتكم ولي لغتي، لكم منها القواميس والمعجمات والمطولات ولي منها ما غربلته الأذن وحفظته الذاكرة من كلام مألوف ومأنوس تتداوله ألسنة الناس في أفراحهم وأحزانهم.... أقول لكم إن النظم والنثر عاطفة وفكر، ما زاد على ذلك فخيوط واهية وأسلاك متقطعة .... لكم لغتكم ولي لغتي).
             ونلمح في قصيدة الشعر المهجري الوحدة العضوية كأساس من أسس شكلها وقد تناول أدباء هذه المدرسة في نتاجهم الأدبي مضامين مختلفة مثل الحنين الى الوطن والاحساس المستمر بالإغتراب الروحي والمادي والتحرر من القيود القديمة الأدبية الشكلية وتفضيل جانب المعنى على جانب اللغة. ولا شك أن هذه المدرسة الأدبية لعبت دورا هاما في تطبيق الحداثة على الأدب العربي.
جماعة أبولو:-
             ولما كادت أشعة الضياء واللمعان للمدارس المذكورة تتضاءل وتفقد هوايتها نشأت جماعة أبولو تحت قيادة رائدها الدءوب أحمد زكي أبو شادي وكان يريد بها نادية يجتمع فيها أدباء الأدب العربي وشعراؤه ويبحث قضاياهم الإجتماعية والأدبية وكان يقدم خدمته ومساعدته لكثير من الأدباء في نشر الدواوين  والأعمال الأدبية وهذا فتح بابا لمرحلة من مراحل تطور الشعر العربي الحديث شكلا ومضمونا وصدر من خلالها العدد الأول من مجلة أبولو سنة 1984 وقد نشأ وترعرع تحت رعاية هذه الجماعة عديد من الشعراء من أنحاء العالم العربي المختلفة كما احتضنت شعراء مصر والعراق وسوريا والسودان وتونس ولبنان وغيرها.
             ومن أبرز مؤيديها الشاعر أحمد شوقي وخليل مطران وأحمد محرم وابراهيم ناجي وعلى محود طه وحَسن كامل الصيرفي وصالح جودت ومصطفى السحرتي وغيرهم ولم تكن هذه تمثل فلسفة فنية خاصة بل كانت مفتوحة العين لكافة الإتجاهات الشعرية والنقدية وقد احتفظت بمتانة التركيب وفحولة الأسلوب واشراق المعجم الشعري للمحافظين وبالتأمل والوحدة العضوية لمدرسة الديوان وبالمعنى الوضعي للغة والقلق الوجودي لمدرسة المهجر وبينما كان الشعر الغربي بدأ يستقر في أذهان الشعراء تاركا فيهم تأثيراتِه العميقة، كان شعراء هذه الجماعة الأدبية أكثرَهم التحاما بواقع هذا الشعر الغربي وخاصة بالإبداع الرومانتيكي فيه. ويلاحظ الدكتور محمد أحمد العزب " فكان لها من ذلك كله حصيلة دافعة إلى إجادة التعبير وتعصير الرؤية الشعرية من جانب وإلى التشتت بين هذه الإتجاهات والتيارات فلم تستقر على اتجاه واحد بعينه من جانب آخر"
            وآثرت أبولو الشكل المقطعي مزدوجا ومربعا ومخمسا بديلا عن الشكل الذي تنحصر فيه القصيدة بين صفتي بحر واحد وقافية واحدة كما نادت بالحرية التعبيرية وقد اتسم نتاجها الأدبي بالوجدان الذاتي وتضمَّن هو مضامين الحب العذري وحرية المرأة وفنية الطبيعة والحنين الى الوطن وغيرها.
مدرسة الشعر الحر:-
                 وبعد الحرب العالمية الثانية اطلع الأدب العربي على أيديولوجيات عديدة وهي قادته الى التحرك من سكونية العادة في النمط الشعري الى مغامرة التجريب والابتداع ومن أهم الأسباب لتفجر حركة الشعر الحر اتساع رقعة الثقافة الواردة على العالم العربي بما تحمل من سمات الحداثة وصفات العصرنة وقد ظهرت هذه الحركة في نهاية الأربعينات من القرن العشرين وهبت هذه الريح الثورية من العراق على لسان بدر شاكر السياب ونازك الملائكة فظل الشعر الحر ظاهرة من ظواهر الحياة الأدبية المعاصرة. ونادت هذه الحركة بالثورة على نظام القصيدة طارحة سؤالا هاما أي بينما تطور وتحول وتغير كل شيء، لم يحدث هذا في نظام القصيدة، لماذا؟ فدعت الى التمرد على البقاء في محدودية العروض الخليلي وطالبت بقيادة الفن وايتائه على نواميس التطور حتى يتحلى بأوصافه الحضارية المتقدمة والمستجيبة لإيقاع الحياة المعاصرة. وثورتها دعت الأدباء الى إنقاذ القصيدة من هفوة وحدة البيت والى إجراءها على وادي وحدة التفعيلة.
                وقدمت هذه المدرسة رسالة الاعراض عن القافية الضاغطة واستبدالها بقافية مرنة أو بإيقاعات داخلية ورسالة التمرد على الشكل الكلاسيكي لتحقيق المستوى العالي من التعبير عن مضامين حضارية حيوية فتقلدت أشعار هذه المدرسة سلسلة الرؤى العالمية والفلسفية كما نرى في دواوين نازك الملائكة مثل "شظايا ورماد" وقصائد بدر شاكر السياب الذي طال البحث وحر النقاش حول تأثره بالشاعر الإنجليزي المشهور "تومس اليوت" وهذا الشاعر الإنجليزي هو الذي وضع الأساس لحركة الشعر الحر فبنى الأدباء العرب على هذا الأساس قالبهم الحر ونوعوا في الصور البلاغية والمضامين الفلسفية ووظفوا فيها تقنيات درامية حيث افتتحوا القصائد بالافتتاحات الدرامية وزينوا شعرهم بالحوارات المتنوعة المثيرة في قلوب المستمعين دهشة ورغبة وجعلوا الأشياء العادية مواضيع قصائدهم كما نلمح ذاك في قصيدة " القطار" لنازك الملائكة.
               وقد اتضح أنه كان لفكر الواقعية الإشتراكية وفكر الوجودية الفرنسية تأثيرهما العميق على دفع هذه المدرسة الى الأمام ونحوَ الإتجاه الواقعي الإجتماعي من ناحية والواقع التجريدي من ناحية أخرى.
               ولم تنحصر ثورة الشعر الحر في شكل القصيدة ومضمونها بل توغلت الى لغتها وحطمت قواعدها المنطقية وابتكرت أنساقا تعبيرية لا توجد لها أصالة في طوق اللغة السائدة فنزعت مسامير العلاقات النحوية والبلاغية والتركيبية في الجمل. وبالجملة كانت هذه المدرسة مختبرا أدبيا فلسفيا لفك الهيكل الأدبي العادي التقليدي عضوا عضوا ولإعادة تشكيله من جديد بدون أي خطة مسبقة. وبالإجمال كان لهذه المدارس دور كبير في تحديث الأدب العربي وتجديده على أساس بناء الأدب الغربي.




المصادر والمراجع:-
حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، دار الجيل - بيروت،1986
س. موريه، الشعر العربي الحديث 1800 – 1970، تطور أشكاله وموضاعته بتأثير الأدب الغربي، دار الفكر العربي
د. شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، دار المعارف
محمد أحمد العزب، عن اللغة والأدب والنقد، دار المعارف، 1970
تاريخ الأدب العربي : العصر الحديث، دار المعارف
د. محمد غنيمي هلال، دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، دار   نهضة مصر،
M.M Badawi, A Short History of Modern Arabic Literature, Clarendon Press.Oxford, 1993.

0 comments:

إرسال تعليق