لا أدري،
مثل الآخرين، هل هذه حقيقة أم خيال، لأنها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. في
مساء يوم الخميس الماضي، حكى لي تلميذي العزيز الأخ عثمان بن همزة هذه القصة. وهو
يُطعمني ألذ الأطعمة التي تناولتُها منذ حين، ويقول إن هذا الطعام الشهي من إعداد
هذا الرجل الجديد الذي يُعرف في قريته بلقب تسُونامي. واستغربتُ من لقبه الذي لا أعتقد
أنه من الألقاب الشائعة في ديارنا المليبارية. إنما هي كلمة تعني مجموعة من
الأمواج العاتية تنشأ من تحرك مساحة كبيرة من المياه مثل المحيط ومن الزلازل
والتحركات العظيمة سواء على سطح المياه أو تحتها، ولكن الكلمة ارتبطت في ذاكرتنا
الشعبية بالطوفان الذي عصفتْ رياحُه العاتية بالقرى الساحلية في إندونيسيا
والبلدان المجاورة للمحيط الهندي سنة 2004م. والإبداع، كما يرى النقاد، لا يأتي من
الفراغ، وإنما يستلهم المبدع مادته القصصية من واقع الحياة، ومعايشته للأحداث
والوقائع، ومن تجاربه وتأملاته وملاحظاته الدقيقة فيما يقع حوله كل لحظة وآن.
إنها قصة
حب وصفاء، وقصة برّ ووفاء. قصة إبراهيم، ذاك المراهق المليباري الذي غادر بيته قبل
سنوات. وترك أسرته ليهرب إلى مكان بعيد بعد أن ارتكب معصية كبرت في عينيه وخاف
عليها العقاب من والده المستبد العم[1] علي. في المجتمع المليباري،
المتنمرون من الأطفال يتورطون في التنمر على الأطفال داخل المدرسة، وحينما يخافون الضرب
والتوبيخ من والديهم يلجؤون إلى مغادرة بيوتهم وقراهم أو النفور من ذويهم وأقاربهم
ثم يفرون إلى مكان بعيد... ومنهم من يرجعون إلى بيوتهم بعد أيام، ومنهم من تكتشف
الشرطة على مكانهم الجديد، وتُعيدهم إلى أحضان أمهاتهم، ومنهم فئة ثالثة تُفضّل
الاستقرار في مكانها الجديد ويحلو لها البقاء هناك لتبني عائلة دون العودة إلى
أوطانها
السيد إبراهيم
الذي اشتهر في قريته بلقبه الغريب "تسونامي"، رحل عن ذويه إثر شجار عنيف
بينه وبين أصدقائه في المدرسة. مدير المدرسة السيد عبد الرحمن كالاثيل طلب من
والده "العم علي" أن يحضر المدرسة لاتخاذ الاجراءات الرسمية لسحب ولده
إبراهيم عن المدرسة لكثرة تورطه في أعمال التنمر على الأطفال الآخرين داخل
المدرسة. وفي مساء ذلك اليوم قرر إبراهيم أن يغادر بيته ويفر إلى مكان بعيد لا
يخاف فيه ضربة والده العم علي ولا عقوبة منه. وفي صباح اليوم التالي، قبل أن يبزغ
الفجر من رحم الظلام، خرج إبراهيم من الباب الخلفي لبيته، وألقى نظراته الأخيرة على
كل جزء من أجزاء البيت، وقبل أن يطلع على شارع القرية الذي يقوده إلى محطة القطار،
حفر إبراهيم الفارّ اسمه على جذع الشجرة الصغيرة التي أتى بها قبل 3 سنوات من
المدرسة في اليوم العالمي لحماية البيئة. وظن الولد أن اسمه سيبقى راسخاًً في ذاكرة
أقاربهم طالما بقي اسمه محفورا على جذع هذه الشجرة.
وهنا ندع
صاحبنا إبراهيم التسونامي يحكي لنا قصة حياته بعد فراره من البيت. والقارئ يدرك
بأن حياته لم يتناسق ظاهرها البهي والجميل مع باطنها القاسي والمضطرب بعد انفصاله
عن قريته الصغيرة في المليبار - التي تربى فيها كولد مدلل يعرفه الجميع - إلى
جزيرة حيث لا علاقة له فيها ولا قرابة. وهيا بنا نجلس معه لكي نستمع إلى ما يحكي
لنا عن أيامه الماضية في هذه الجزيرة البعيدة، وعن الأسباب التي ساقته مرة أخرى
إلى قريته في المليبار... لأن الإنسان إذا ما عايش ظروفا قاسية بعيدة عن أنظار
الآخرين، يصبح مجرد وهم وخيال.
يقول
إبراهيم التسونامي: "استقرت بي تلك الرحلة في إحدى جزر آندامان ونيكوبار (Andaman
and Nicobar Islands) الواقعة في المحيط الهندي... رحلة هربت
فيها بنفسي ومشاعري، بالقطار، والباص، والسفينة، إلى هذه الجزيرة النائية عن قريتي
في المليبار. لم أعرف ماذا كان عليّ أن أفعل... أتسكع كل يوم على طرقات مدينة بورت
بلايار (Port Blair) أبحث
عن اللا شيء، أو ربما عن شيء أملأ به بطني الجائع... وبعد أسبوعين كاملين، حصلت
على عمل في أحد المطاعم في هذه الجزيرة. ما كانت وسائل الاتصالات شائعة في بداية
التسعينيات، فلم تتمكن الشرطة من الاطلاع على مخبأي، كما لم يتعرف عليّ أحدٌ من
سكان هذه الجزيرة... وذات مرة، سألني أحد الزملاء في المطعم عن قريتي ومسقط
رأسي... وذكرت له اسم قرية أخرى بعيدة عن قريتي لكيلا يتفطن إلى قريتي فيكتشف
هويتي... ومع مرور السنوات، تناسيت جميع العلاقات التي ربطتني بأقاربي وقريتي... ومرت
الأيام في هذه الجزيرة بسرعة البرق. واتخذتُ في الجزيرة أسرة ضمتني أنا وزوجتي
التي أنجبت لي ولدين...
وبينما
أنا أعيش ميسور الحال ومطمئن البال في الجزيرة الهادئة، عصفت رياح التسونامي
العاتية بشواطئ المحيط الهندي سنة 2004م. وكان ولدي الصغير مع جدته لأمه يلعب في رمال
الشاطئ حينما جاء التسونامي، بكيت وبكيت بملئ حنجرتي لأني عرفت بأن الأمواج قد
جرفت بابني الصغير... بحثت عنه ثلاثة أيام في المخيمات والمستشفيات وفي وسط
الأنقاض... وأخيرا بعد خمسة أيام قالت السلطة بأنها أدرجت اسم ابني في قائمة
الأطفال المفقودين... نعم آلاف الأطفال الأبرياء قد انفصلوا عن والديهم... نذرت
القرابين باسم الأولياء والصالحين... وأخيرا اتصلت بذلك الهاتف الذي حُفرت أرقامه في
ذاكرتي منذ الصغر... رقم الهاتف في بيتي في قريتي في المليبار... رقم لم أتجرأ أن
أتصل عليه بعد فراري قبل عشرين سنة... اتصلت لكي أخبر بأن ولدي الصغير قد صار من
المفقودين إثر رياح تسونامي... ورن الهاتف في قريتي... من أول وهلة عرفت ذلك الصوت
الجهوري... والدي العم علي... ارتجفت يميني التي أمسكت السماعة... ولا أدري هل
يرتجف بدني لخوف ما سأسمعه من كلام الوالد أو مواساته لي لفقد ولدي... شددتُ سمّاعة
الهاتف لأذني اليسرى بقوة أكبر، ثم تجرأت على أن أقول... "إني إبراهيم، ولدكم
الوحيد الذي فر منكم قبل عشرين سنة... أنا بخير... وأظن أنكم أيضا في أتم الصحة
والعافية، وأتمنى لكم الصحة وطول العمر... وإني منذ أسبوع لم أر ولدي الصغير، ولم
أسمع صوته، لا أعرف شيئا عنه، سوى أنه ضاع مني كما ضاع أطفال هذه القرية عن
والديهم... إن أمواج تسونامي العاتية قد دمرت القرى المجاورة لسواحل جزر آندامان (Andaman
Nicobar Island)، وشردت الأهالي وأماتت أفراد الأسر
والعائلات، فيما تشرد الأطفال عن بيوتهم ينتظرون مجيء أبويهم في المخيمات التي
أقيمت في مدينة بورت بلايار (Port Blair)...
وألتمس منكم يا بابا أن تدعو لولدي المفقود..."
وقبل أن أنهي
كلامي، قال والدي العم علي: "ألتمس منك أيضا أن تدعو لعودة ولدي الذي غاب عني
وعن أمه قبل عشرين سنة، لعل الله يعيده إليّ قبل موتي، لأن والدته المريضة لا تزال
تذكره، وتسأل عنه" مرت لحظة من السكون، لم أسمع سوى خفقات قلبي، وكنت أحس بأن
الأرض تدور حولي. مَنْ قال إن الأرض التي حولنا لا تحس ولا تشعر ولا تحزن؟ أعتقد
بأن ذلك المكان الذي أنا فيه، يدور حولي، ويحس بمشاعري، وهو أيضا يرتجف لهول ما
سمع من كلام الأب. شعرت بأنني على وشك الإغماء، وبدأت أفقد توازني رويدا رويدا،
شعور غريب يستعصي على التفسير... من دون أن تنتظر إذني، تنهدتُ طويلا ومرات... هل تستطيع
أمواج التسونامي الهائلة التي عصفت بنا قبل أسبوعين، أن تطفئ ما تفجر بداخلي من بركان...؟
كيف أرده؟ كلمات قليلة مختصرة عليَّ أن أجيبه بها، ولكنها لم تصل إلى الخارج...
"لن أترك الزمن مرة أخرى يعبث بنا يا بابا، لن أترك الظروف تبعدنا عنك وعن
أمي ". لا أدري هل هذه الجملة وصلت إلى الطرف الآخر في الهاتف؟ أم لا... إلا
أنني حاولت أن أكررها، ولكن العبرات في عيني قهرت العبارات على شفتي.
راحت
أبواب الذاكرة مشرعة تتفتح أمامي على أيام جميلة، بدأت أستعيد ذكرياتها الرائعة،
وقد أحسست أن كل ما حولي يتراقص على الذكريات الحلوة التي قضيتها في أسرتي، لعنت كل
الساعات والدقائق والثواني التي لم تسمح لي بالرجوع إلى هذه الذكريات الجميلة... وبعد
عشرين سنة، أرجع إلى مسقط رأسي، إلى دفء أمي، إلى رأفة والدي، إلى محبة أقاربي...
ذهبت ذكرياتي الماضية مهرولة إلى مسقط رأسي، إلى قريتي، إلى مدرستي، وإلى جميع
الذرات التي شكلت بيئتي في الطفولة. وأسرعت إلى مدينة بورت بلايار (Port
Blair) لكي أححز تذكرة السفر للرجوع إلى قريتي
الجميلة. نعم في الأسبوع القادم، هناك سفينة ستقلع من ميناء بوت بلايار (Port Blair) إلى كوشن (Cochin). يا
إلهي.... بعد عشرين سنة، سوف ألتقي بوالدي، ووالدتي، وأقاربي، وأستنشق هواء
قريتي... للحظة، تخيلت أن هذا المكان حولي قد تحول إلى طفل لا يملك سوى البكاء.
عشرون
سنة يكفيها لتغير صورة القرية التي التقطتها عدسة ذاكرتي... كل شيء تغير، إلا تلك
الشجرة الكبيرة التي حفرت على جذعها الصغير اسمي لكيلا أكون أنا خبرا منسيا في
بيتي وبين أقاربي. وهي واقفة قبال بيتي إلا أن الحروف الإنجليزية التي حفرتها أخذت
تضمحل... الأقارب والجيران كلهم ينظرون إليّ بعين الاستغراب والدهشة... أجُرّ أنا
خطواتي الثقال، وأطلب من الأرض التي تحت نعالي أن تتوقف عن الدوران لأترجل منها...
طرقت الباب كأنني أطرق عليه أولا في حياتي... وفتحت الباب شقيقتي الصغيرة التي
كانت في عمرها الخامس يوم وداعي، مُحدّقةً في وجهي، وهي تحاول أن تجد وجه التشابه
بيني وبين تلك الصورة الراسخة في ذهنها حين غادرتُ البيت قبل عشرين سنة. ولكن
محاولاتها فشلت، واختفت وراء أمي. أما والدتي المحبوبة، فهي لم تفتح باب المحاولة،
بل بمجرد رؤية حققت بأنني ذلك الجزء الذي انفصل عن حضنها ولم ينفصل عن قلبها. وهي
تضمني إلى صدرها كما كانت تضمني وأنا رضيع في حجرها. قَلّت الكلمات في شفتيها
وكثرت الدموع في عينيها، وهي تسمح لدموعها بالفيضان كما تفيض الأنهار في كيرالا في
موسم المطر ... رسمت الأحزان والآلام آثارها على وجهها... وكم افتقدت هذا الدفء،
وكم كانت الحياة دافئة في أسرتي قبل سنوات... تململت في داخلي "ذريني وقلبك
يا ماماه... هذا الدفء لا أُضيّعه مرة أخرى في حياتي..."
أما
والدي "العم علي" الذي لم يكن موجودا في البيت وقت رجوعي... كان قد رحل
إلى السوق لشراء الحاجات المنزلية. وبعد ساعة، رأيت والدي يصعد الأدراج، رجل كان
في عنفوان شبابه يوم ذهابي... وأصبح اليوم شيخا هرما شيبته الأحزان والآلام وأنهكته
الأمراض والسنون، وهو يتكئ على عكازه، ويحمل في يساره كيسا للخضراوات والفواكه...
حدّقتُ النظر في وجهه، تلك السنون المجدبة قد رسمت على ملامح وجهه نقوش اليأس
والاستكانة، إلا أنني رأيت ملامح الاستبداد لا تزال باقية في عينيه الثاقبتين. كم
تغير والدي... أخاديد عميقة، وظهر مقوس، وعكازة... اقترب والدي مني وتبسم على
رؤيتي، لقد أعطته هذه المفاجأة المباغتة ابتسامة حلوة تعبر عن فرحه سروره الغامر...
طبع والدي قبلة على جبيني، ثم عانقني... كأن كاهله قد صار أكثر انحناء لثقل ما حمله
طوال هذه الأيام البائسة. لم أتجرأ على أن أتفوه بكلمة... حينما عانقني معانقة
طويلة استمرت لدقائق، تلاشى كل شيء حولي، ولم يبق إلا طفله هو ووالدي العم علي،
الوالد المستبد، والعطوف بطريقته الخاصة... وقال والدي: "الحمد لله على سلامة
ولدي وفلذة كبدي إبراهيم". خلال حياتي كلها، لم يعانقني أحد معانقة دافئة كهذه...
نعم اليوم، بعد عشرين سنة، في حياتي الجديدة أرى الكثير من الوجوه المبتسمة، وأنال
الكثير من الحب من الأقارب، وأنال السعادة
من الدموع، الدموع هي بلسم للجروح، وهي ترياق بل وأكسير للحياة.
وأصبحت
قصة إبراهيم حديث الناس في القرية. إبراهيم الذي غادر القرية قبل عشرين سنة، رجع
إلى أهله بسبب تسونامي... تقول أم إبراهيم إن تسونامي قد ضيعت رياحُها العاتية
آلاف الأبرياء من الأطفال، إلا أنها أرجعت طفلها إبراهيم إليها. فتح إبراهيم بعد
عودته إلى القرية مطعما في قريته وأضاف إلى الأكلات والأطباق المليبارية بعض الأكلات
الساحلية من الجزر الشرقية في مطعمه الذي سماه: "مطعم التسونامي" ومن
هنا، اشتهر صاحبنا إبراهيم بلقبه الغريب "التسونامي".