بقلم الأخ محمد علي الوافي
مركز الدراسات العربية والإفريقة ـ جامعة جوهرلال نهرو ـ نيودلهي
مركز الدراسات العربية والإفريقة ـ جامعة جوهرلال نهرو ـ نيودلهي
أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، إن العناية بكتاب
الله عز وجل ومذاكرته وتفهُّم معانيه وترسُّم هديه، نعمة من الله تبارك وتعالى،
ولذلك اصطلح العلماء رحمهم الله على
تسمية هذا العلم بعلم التفسير، وإن عمَّموه قالوا: علم القرآن، وأرادوا بذلك
العناية بكتاب الله عز وجل بمعرفة حدوده، والوقوف عند آياته وعظاته.
ومن ثم كان أشرف العلوم وأزكاها وأعلاها،
علم تفسير كتاب الله بمعرفة حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، والوقوف
على أحكامه وحدوده،
وتبين مسائله وشرائعه، فالعناية بذلك كله توفيقٌ من الله تبارك وتعالى، ومنحةٌ
وعطيةٌ من الله سبحانه وتعالى.
سورة
النور من السور المدنية التي تمتاز ـــ كأيّة سورة
مدنية ــــ بتناول الأحكام الشرعية، وتعني بالأمور الاجتماعية والنصائح العائلية، وتهتم
بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغى أن يربّى عليها المسلمون أفراداً وجمعات ، وقد
اشتملت على أحكام عامة وتوجيهات هامة تتعلق بالأسرة التي هي نواة المجتمع كالاستئذان
عند دخول البيت ، وغض البصر ، وحفظ الفروج ، وحظر اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات،
وما ينبغي أن يكون عليه البيت المسلم والأسرة المسلمة من العفاف والنزاهة والطهر والاستقامة
على شريعة الله صيانة لحرمتها وحفاظاً عليها من عوامل التفكك الداخلي والانهيار الخلقي
الذي يهدم الأمم والشعوب. وكذلك تحد سورة النور حول المجتمع
الإنساني حدودا توجب المحافظة عليها لتكون الأسرة المسلمة مطهرة من الخبائث
والرذائل.
وجه
التسمية
سميت
سورة النور بهذا الاسم لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس، ببيان الآداب
والفضائل، وتشريع الأحكام والقواعد، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى "
الله نور السموات والأرض[2]"
أي منورهما، فبنوره أضاءت الساماوات والأرض، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى
طريقهم[3].
وكذا إنه من اسماء الله
سبحانه وتعالى النور، ومن صفاته أنه نور، وأن الوحي الذي أنزل الله سبحانه وصف
بالنور كما قال الله تعالى (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) وأن نبينا محمد عليه
الصلاة والسلام قد وصفه الله بالنور فكلاهما كما قال الله سبحانه(نور على نور)
فإذا أراد الإنسان النور من غير هذا النور فوالله لن يحصل إلّا على الظلمات فنرى
بعضهم يبحث عن السعادة في المال والمراكب والمنازل كل هؤلاء لن يصلوا إلى هذه
السعادة الأبدية الخالدة. وانطلاقا من هنا، وخالقنا جلّ وعل ينور طريقنا بنوره،
وهو نور على نور.
فضائل سورة النور
حدثنا عبد الله قال حدثني جعفر بن محمد
بن فضيل من أهل رأس العين قال حدثني معافى بن سليمان حدثنا موسى بن أعين عن بن
كاسب الكوفي عن الأعمش عن شقيق قال : سمعت ابن عباس وكان على الموسم فخطب الناس ثم
قرأ سورة النور فجعل يفسرها الله نور السماوات والأرض
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ثم قال النور
في قلب المؤمن وفي سمعه وبصره مثل ضوء المصباح كضوء الزجاجة كضوء الزيت أو كظلمات
في بحر لجي والظلمات في قلب الكافر كظلمة الموج كظلمة البحر كظلمات السحاب فقال
صاحبي ما رأيت كلاما يخرج من رأس رجل لو سمعت هذا الترك لأسلمت[4] .
وعن
ابن الطائني، عن أبي عبد الله المؤمن، عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور، وحصنوا بها نساءكم، فان من أدمن
قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت، فإذا هو
مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك كلهم يدعون ويستغفرون الله له حتى يدخل في قبره.
المواضيع
التي تعالج هذه السورة:
والموضوع
الذي اختاره الله مبحثا في هذه السورة معظمها بل كلها يدور على رحى آداب البيت
والأسرة بل وعلى رحى التربية الإيمانية
الصافية. وأما مجمل الموضوعات التي تتناولها
سورة النور للبحث وهي:
· الزنا وقذف المحصنات وحدودهما.
· اللعان وما يترتب عليه.
· تبرئة أم المؤمنين عائشة الصديقة مما
رميت بالإفك.
· التحذير من اتباع خطوات الشيطان.
· بيان شروط الاستئذان وآدابه.
· غض البصر.
· الله نور السموات والأرض.
وهيا
نروح لنرى كيف عالج خالق السماوات والأرض هذه المواضيع في محكم تنزيله وكيف قنّن
القوانيين لإصلاح المجتمع الإنساني.
الزنا
وقذف المحصنات وحدودها
واعلم أن الزنا حرام، وهو من الكبائر، ويدل عليه
أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى
حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثَامًا[5] وقال:
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا[6]،
وثانيها : أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر ، وشرع
فيه الرجم ، ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك
الطائفة من المؤمنين ، لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجلٌ وثالثها : ما روى حذيفة عن
النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ستّ
خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث
الفقر وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب
وعذاب النار[7]"
عن عبد الله قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم أي
الذنب أعظم عند الله ؟ قال ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك
) . قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي ؟ قال ( وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ) . قلت
ثم أي ؟ قال ( أن تزاني حليلة جارك )[8]
واختلفوا في أن اللواطة هل ينطلق عليها اسم الزنا أم لا ؟
فقال قائلون نعم. واحتج عليه بالنص والمعنى ،
أما النص فما روى أبو موسى الأشعري رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال :
"إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" وأما
الأكثرون من أصحابنا فقد سلموا أن اللواط غير داخل تحت اسم الزنا واحتجوا عليه
بوجوه : أحدها : العرف المشهور من أن هذا لواط وليس بزنا وبالعكس والأصل عدم
التغيير وثانيها : لو حلف لا يزني فلاط لا يحنث وثالثها : أن الصحابة اختلفوا في
حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة فلو سمي اللواط زناً لأغناهم نص الكتاب في حد
الزنا عن الاختلاف والاجتهاد ، وأما الحديث فهو محمول على الإثم بدليل قوله عليه
الصلاة والسلام : "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" وقال عليه
الصلاة والسلام : "اليدان تزنيان والعينان تزنيان"[9]
وأما
قذف المحصنات فهو من الكبائر أيضا، وقد
قال أصدق القائل في محكم تنزيله وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ، إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[10]. وقال أيضا: "إن الذين يرمون المحصنات
الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم"[11]
وروى البخاري في صحيحه حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: "يا
رسول الله وما هن ؟" قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله
إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات
الغافلات"[12].
وإنّ
التعرض لأعراض المؤمنين لأمر من الأمور الدنيوية، جعل الإله عاقبته أشد إثما وأعظم
وزرا، والزنا إثم يترتب عليه الرجم في المحصن والضرب والتغريب في غير المحصن ، إذ
لا ينبغي لأحد من الناس أن يتساهل به بل يلزم عل كل من يرمون بالزنا أن يأتو
بأربعة شهداء ، وإن لم يأتوا بما نصت به الآية وهو مستحق للحد الذي هو ثمانين جلدة
باتفاق العلماء. وعده سبحانه تعالى من الفاسقين" وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ" أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كثر شرهم، وذلك
لانتهاك ما حرم الله، وانتهاك عرض أخيه، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل
الإيمان، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا دليل على أن القذف من كبائر
الذنوب.
حدود
الزنا:
يقول
أحد الأدباء تعليلاً طريفاً لهذا الحكم : إن من هدم بيت الزوجية بزناه أو من هدمت بيت
الزوجية بزناها ينبغي أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه حتى يتعلم كيف يصون
البيت!!
والحد في الزنا يختلف باختلاف المرتكب، فتارة يكون مائة جلدة إذا كان الزاني بكرا لم يتزوج كما قال
تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [13] مع التغريب عاما كما قرره جمهور العلماء ؛ إلا
أبا حنيفة فإن التغريب عنده يرجع إلى رأي الإمام، فتارة يكون الرجم إذا كان الزاني
الثيب، ثيبا، فالثيب: هو كل من تزوج، ووطئ في نكاح صحيح، مسلماً، عاقلاً، بالغاً،
فإذا تحقق الإسلام، مع البلوغ، مع العقل، مع نكاح صحيح، ووطءٍ صحيح فإنه يُحْكَم
بكون الإنسان ثيباً، ولو أن رجلاً تزوج امرأة وعَقَد عليها ولم يدخل بها ثم زنا
قبل الدخول بها، فإنه لا يزال بكراً، ولا يُحْكم بكونه ثيباً بمجرد العقد، فالثيوبة
بإجماع العلماء يشترط فيها الدخول. وبناءً عليه: فمتى تحقق هذا الوصف -وهو كون
الزاني ثيباً- فإن الحكم أنه يُرْجَم، وهذا بإجماع السلف والخلف، خلافاً للخوارج
الذين يقولون: إن الثيب إذا زنا لا يرجم؛ لأن الله عز وجل أوجب جلد الزاني ولم
يوجب رجمه. ونجيبهم: بأن السنة دلت على الرجم، كما في ثبت في الصحيحين، فحكمه أنه
يجلد أولاً ثم يرجم بعد جلده. وحجة الجمهور في الجلد مع التغريب ما ثبت في
الصحيحين "في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أحدهما يا رسول الله : إن ابني هذا كان عسيفا - أي : أجيرا - على هذا فزنى بامرأته
فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني مائة جلدة
وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم ردا عليك ، وعلى
ابنك مائة جلدة وتغريب عام ، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن
اعترفت فارجمها"[14]
أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وغيره .
وذهب الإمام أبو حنيفة و مالك و الشافعي رحمهم الله، إلى أن الثيب
يرجم ولا يجلد، واحتجوا بحديث ماعز في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر برجمه ولم يأمر بجلده، فدلّ على أن الثيب يرجم ولا يجلد، وهكذا المرأة التي
اعترفت بالزنا أمر برجمها ولم يأمر بجلدها، قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على أن
الواجب هو الرجم دون الجلد.
اللعان وما يترتب عليه:
وبعد أن بين الله حكم قذف المحصنات وما يترتب عليه
من عقوبة، لفّت نظرنا إلى أمر مهمّ، فهو القذف من جانب الزوج، وشرع ذلك في واقعة
وقعت في العهد المدني، ويُرْوَى أن هلال بن أمية ذهب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إني رأيتُ فلاناً على
بطن زوجتي ، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضى حاجته وانصرف ، وإنْ قتلتُه فقد
اعتديْتُ عليه[15]. فأنزل الله حلّا لهذه
المشكلة في محكم تنزيله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ
لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ[16].
ولا يحق للزوج أن يتهم الزوجة بالزنا
إلا إذا تحقق من ذلك بأن رآها أو تبين زناها، على خلاف عند العلماء في ضوابط ذلك
التبين، فمذهب بعض العلماء: أنه إذا أخبره ثلاثة ممن يثق بهم، أو اثنان ممن يثق
فيهم عدالةً وأمانةً وصدقاً، أن من حقه أن يقذفها بناءً على شهادتهم، ومن حق الزوج
أن يلاعن زوجته في حالتين: الأولى: إذا رأى منها الزنا. الثانية: إذا كان هناك
أمرٌ يَخشى منه اختلاط النسب، كأن تكون المرأة حَمَلت من هذا الزنا والعياذ بالله!
فإذا حملت من زناها وجب عليه أن يلاعنها لكي ينفي هذا الولد، فيبعده عن أن يرثه
ويُنسب إليه.[17]
قضت
السنة النبوية أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدًا، فإذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة
بينهما على سبيل التأبيد لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتلاعنان
إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا[18].
وعن علي وابن مسعود قالا: مضت السنة ألاّ يجتمع المتلاعنان[19].
والحكمة في ذلك التحريم المؤبد أنه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب
القطيعة بينهما بصفة دائمة. فإن الرجل إنْ كان صادقًا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على
رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذبًا فقد أضاف إلى ذلك أنه
بهتها وزاد في إيلامها وحسرتها وغيظها.[20]
تبرئة أم المؤمنين عائشة الصديقة :
ومن ميزة هذه السورة أن الله سبحانه
اختار آياته لتبيّن براءة أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها مما رميت بها،
وذلك حيث قال عالم ما تخفي الصدور جلّ وعل "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا
تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إلى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ
آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[21].
أما حادثة الإفك فهي كما نعلم جميعا، لمن
أعظم الحوادث التي وقعت في العصر المدني، والتي عايش النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أحزانَها، وعايشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلاءها وأشجانَها، وعايش
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَرْبها. وقد كانت هذه الواقعة حرب نفسي ضد
المسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم، وتعد هذه الواقعة من أعظم الابتلاءات
والمصائب التي مرت بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تولّى كبره عدوّ الله ورأس
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وقد أفشى ما في صدره الخبيث من البغض والعداوة
ضد المسلمين ورمى بالإفك العظيم عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وصفوان بن
المعطل رضي الله عنه وهو صحابي جليل له فضله، فإنه لما اتُّهم بأم المؤمنين رضي
الله عنه وعنها وأرضاهما، قال: (والله! ما كشفتُ كنف أنثى). أي: ما زنيت بامرأة
قط، وهذا من عفته رضي الله عنه وأرضاه[22].
وقد كان أثره عظيمة ووخيمة في المجتمع
الإسلامي في خير القرون، وكان المسلمون على طوائف: - منهم من أنكر وكذب إبقاءً
لبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. ومنهم من حمل الحديث ونقله دون أن
يصدقه ولكن كان يشهِّر به في المجالس. ومنهم من سمعه وصدقه.فأصبح الناس ما بين
مصدِّق ومكذِّب، وناقل للحديث[23].
أخيرا أنزل الله برائتها رضي الله عنها مما رميت به في محكم تنزيله وذلك في سور
النور.
التحذير
من اتباع خطوات الشيطان:
وبعد هذا يحوّل القرآن انتباهنا إلى أخطر مكائد الدنيا فهي مكيدة
الشيطان، فحذرنا الله تبارك وتعالى عن اتباع سبيل الشيطان، وأخبرنا عن العاقبة
التي ينتهي إليها كل من اتبعه وسار على نهجه وارتضاه، فقال: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[24].
الشيطان إنما يكيد كيده بالوسوسة، فهي سبيل الشيطان للإنسان، ولذلك
إذا وقف الإنسان أمام معصية من المعاصي وجد في نفسه دعوة تدعوه إلى تلك المعصية،
وهي لَمَّة الشيطان والعياذ بالله، ووجد في نفسه ما يزجره عن فعل تلك المعصية وهي
لَمَّة الخير التي جعلها الله عز وجل للمَلَك، ولذلك يعيش الإنسان بين
اللَّمَّتين: منهما: لَمَّة الشيطان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "فإن
للشيطان لَمَّة، وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان: فتسويف بالخير و إيعاد
بالشر، وأما لَمَّة الملك: فنهي عن الشر وإيعاد بالخير"[25]،
فهاتان لَمَّتان موجودتان في الإنسان. فهذه اللمة الملكية من فضل الله، ويزكي من
عباده من يشاء برحمته وفضله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا من ربه التزكية
من مكايد الشيطان كما صح في حديث مسلم أللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من
زكاها أنت وليها ومولاها[26].
ومن زكى نفسه وتخلى عن مكايد الشيطان وقد وعده الله حسن المآب وجزيل الثواب.
بيان
شروط الاستئذان وآدابه:
وكذلك تعلّم الآية الكريمة موضوعا مهمّا ينبغي الاعتبار به في حياة
الإنسان الاجتماعية، فهو
الاستئذان، فهو أدب رفيع وسلوك جميل، يدل على حياء صاحبه وشهامته ونزاهة نفسه.
والآية تؤدّب الصغير والكبير في الدخول والخروج إلى بيوت المسلمين ، وتثبت وجوب
الاستئذان، وتبيّن حدوده وزمانه، والبيوت التي يجب الاستئذان عند دخولها، والبيوت
التي لا حرج في دخولها من دون استئذان. ويقول الباري جل وعل يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ[27].
قال صاحب الكشاف: "
وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر - أى الداخل بغير إذن - على عورة ،
ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال
التى يطويها الناس فى العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف
فى ملك غيرك ، فلا بد من أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب"[28].
غضّ البصر :
ثم
تؤدب الآية الكريمة المجمتمع الإسلامي أدبا آخر من حياة الإنسان فهو غض البصر عن المحرمات
والمغريات إليها، فإن الإنسان إذا أرسل عينه تتلصص على الأعراض من هنا أو من هنا فإنه
يفتح أبواب الشر على نفسه، وقد قال شاعر قديماً:
والمرء
ما دام ذا عين يقلبها في أعين
الغيد موقوف على الخطر
إنّ
فتحَ باب الفتنة أكثر ما يكون بالعين والنظر؛ ولذا تأمر الآية الكريمة المسلمين بغض
البصر عن المحرمات، لأنه مَن الذي يعلم خائنة الأعين ؟ ويقول المولى جل وعل قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ، وقل للمؤمنات يغضُضْن من أبصارهنّ
ويحفظنَ فروجهنّ ولا يبدينَ زينتهنّ إلا ما ظهر منها ولْيَضربْنَ بخُمُرِهنّ على جيوبهنّ[29]، ومعنى هذا أن جسد المرأة عورة ينبغي أن يُوارى ما
عدا الوجه والكفين، فلا يجوز أن تلبس ملابس تصف البدن أو تشف عن مفاتنه أو تغري العيون
الجائعة باستدامة النظر إليه فإن هذا كله فتح لباب الفتنة.
الله نور السماوات و الأرض:
إنّ المحققين من أهل السنة والجماعة أثبتوا أن الله سبحانه وتعالى، في
نفسه نور ، وسمى نفسه نورا ، وصفته النور، ومنه النور ، والمنور لغيره هو : نور ،
وكل ذلك - كما تقدم - ثابت في الكتاب ، والسنة ، وأقوال الأئمة ؛ فهو نور، لكنه
سبحانه ’لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‘ فهو
نور لا كالنور المخلوق ، نور يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، نور يليق بالخالق ،
ومختلف عن نور المخلوق الذي هو خالقه سبحانه ، والذي أخبرنا بهذا هو سبحانه ،
وأخبرنا بذلك رسوله الذي هو أعلم خلقه به[30]
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا
من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المصادر والمراجع
ü القرآن الكريم.
ü تفسير الكبير للعلامة فخر الرازي رحمه
الله.
ü حاشية الصاوي للعلامة الصاوي رحمه الله.
ü الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي.
ü التفسير المنير في العقيدة والشريعة
والمنهج، للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلى.
ü التفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي رحمه
الله.
ü تفسير سورة النور لمحمد بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله.
ü الجامع الصحيح لمحمد بن إسماعيل أبو
عبدالله البخاري الجعفي رحمه الله.
ü الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم لأبي
الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رحمه الله.
ü فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني رحمه الله.
ü المديد المؤلف : أحمد بن محمد بن
المهدي بن عجيبة الحسني الإدريسي الشاذلي رحمه الله.
ü المنة الكبرى شرح وتخريج السنن الصغرى
لمحمد ضياء الرحمن الأعظمي
ü مجلة البحوث الإسلامية -
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
MUHAMMAD ALI WAFY
KARUVATTIL – HOUSE
CHEMBULANGAD
CHERUKUDANGAD – POST
679305 – PIN CODE
PALAKKAD – DT
KERALA, INDIA
09400639473
muhammadaliwafy@gmail.com
[1] هذا ما
كتب الخليفة الثاني عمربن الخطاب رضي الله عنه إلى والي كوفة ـ حاشية العلامة
الصاوي ج/4 ص/171.
[7] الكتاب : البحر المديد المؤلف : أحمد بن محمد بن
المهدي بن عجيبة الحسني الإدريسي الشاذلي الفاسي أبو العباس ص:75 ج:5
[26] رقم الحديث 7081 الجامع
الصحيح المسمى صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري
[30] مجلة البحوث الإسلامية - مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات
البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم الجزء 75 الصفحة 249 http://www.alifta.com