السبت، 25 يناير 2014

الأيام (الفصل14من الجزء الثالث)

الأيام
(الفصل14من الجزء الثالث)
كانت حياة الفتى في باريس حلوة مرّة ويسيرة عسيرة، لم يعرف فيها سعة ولا دعة، ولكنه ذاق فيها من نعمة النفس وراحة القلب ورضا الضمير ما لم يعرفه من قبل وما لم ينسه قط. كانت حياته المادية شاقة، ولكنه احتمل مشقتها في شجاعة ورضا وسماح، لم يكن مرتبه يتجاوز ثلثمائة من الفرنكات، كان يدفع ثلثيه في اليوم الأول أو الثاني من كل شهر، ثمنا لمسكنه وطعامه وشرابه، وكان يدفع نصف الثلث الذي كان يبقى له أجرا لسيدة كانت تصحبه إلى السوربون مصبحا وممسيا، ليسمع فيها دروس التاريخ على اختلافها، وتقرأ له بين ذلك ما شاء الله من الكتب حين لا يخلو له ذلك الصوت العذب الذي كان قد رتّب له ساعات بعينها في النهار، ليقرأ له فيها روائع الأدب الفرنسي، وكان يستبقي فضل مرتبه بعد ذلك لينفق منه على ما يعرض من حاجاته اليومية، فأما أمر كسوته فقد تركه إلى الله لأن مرتبه لم يكن يتسع له.
وأنفق السنة الأولى من حياته في باريس لا يخرج من بيته إلا إلى السوربون. فكان سجينا أو كالسجين، لم يذكر قط أنه خرج من باريس إلى ضاحية من ضواحيها في أيام الراحة التي كان رفاقه ينفقون فيها أيام الآحاد، ولم يذكر قط أنه اختلف إلى قهوة من قهوات الحي اللاتيني التي كان رفاقه الجادّون يلمّون بها بين حين وحين، وكان أكثر الطلاب المصريين يختلفون إليها أكثر مما كانوا يختلفون إلى الجامعة، وإنما كان يلزم بيته في أيام الراحة لايفارقه، وربما خلا إلى نفسه اليوم كله في غرفته، إلا أن يلم به ذلك الصوت العذب فيقضى معه ساعة من نهار.
وكان يسمع أنباء المسارح ومعاهد الموسيقي واللهو، وكانت نفسه ربما نازعته إلى بعض هذه المسارح ليسمع هذه القصة أو تلك، ولكنه كان يردّ نفسه في يسر إلى القناعة والرضا. وكيف السبيل إلى غير ذلك وهو لا يستطيع أن يذهب وحده إلى حيث يريد، ولا يستطيع أن يدعو غيره إلى مرافقته، ولا يريد أن يكلف غيره من الناس عناء مرافقته من جهة وتحمّل ما تقتضيه هذه المرافقة من النفقات من جهة أخرى، ولم تكن ذكرى أبي العلاء تفارقه في لحظة من لحظات اليقظة إلا أن يشغل عنها بالاستماع إلى الدرس أو إلى القراءة. كان يذكر دائما قول أبي العلاء في آخر كتاب من كتبه إنه رجل مستطيع بغيره، وكان يرى نفسه مستطيعا بغيره دائما، ويحتمل في سبيل ذلك من غيره هذا الذي يتيح له الاستطاعة ألوانا من المشقة وفنونا من الأذى بدون أن ينكر منها شيئا؛ فهو مكره على احتمالها إكراها، وهو مخيّر بين أن يقبل ما يكره من غيره من الذين كانوا يعينونه على ما يريد أو يرفض فيضطر إلى العجز المطلق اضطرارا، ويضيّع حياته في باريس بل حياته كلها في باريس أو غير باريس، وكيف السبيل له إلى أن يذهب إلى السوربون ليسمع الدروس فيها إذا لم تعنه على ذلك هذه السيدة التي لم يكن من معونتها بدّ، والتي كانت ترفق به أحيانا وتعنف به أحيانا أخرى، وربما صحبته من البيت إلى الجامعة بدون أن تلقي إليه كلمة أو يسمع لها صوتا، وإنما كانت تعطيه ذراعها وتمضي معه صامتة كأنما تجرّ متاعا لا ينطق ولا يفكر، حتى إذا بلغت قاعة الدرس أجلسته إلى مائدة من موائدها، وانصرفت عنه على خارج القاعة فانتظرت حتى إذا فرغ الأستاذ من درسه أقبلت عليه فأقامته من مجلسه، ومضت به إلى بيته، حتى إذا انتهت به إلى غرفته أدخلته فيها وأغلقت من دونه الباب، وهي تقول له في صوت خاطف: "إلى اللقاء في ساعة كذا من النهار".
وربما اعتذرت هذه السيدة من مهمتها بعد أن تجد له سيدة أخرى تقوم مقامها. فكانت هذه السيدة الثانية ثرثارة تؤذيه بحديثها المتصل أكثر مما كانت تلك تؤذيه بصمتها الملحّ...
على أن عجز الفتى لم يكن مقصورا على ذهابه إلى الجامعة وعودته منها، وإنما كان عامّا شاملا يمس الفتى في أشد الأشياء لزوما له، فهو كان يستحي من كل شيء ويكره أن يثير الضحك منه أو الرثاء له والإشفاق عليه. وكان شرطه حين سكن في البيت الذي أقام فيه ألا يشارك أهله في طعامهم، وإنما يخلو إلى طعامه الذي يحب أن يحمل إليه في غرفته حين يأتي وقته، فكان الطعام يحمل إليه ويوضع بين يديه ثم يخلي بينه وبينه فيصيب منه ما يستطيع لا ما يريد. يحسن ذلك أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى، وربما وضع بين يديه من ألوان الطعام ما لا يحسن تناوله فيتركه مؤثرا العافية، محتملا في سبيلها ما قد يتعرض له أحيانا من ألم الجوع.
وظل الفتى على هذه الحال أشهرا، ولكن الله رفق به بعد ذلك فأتاح له من كان يهيء له طعامه ويعلمه كيف يرضى منه حاجته.
واتخذ الفتى زيّ الأوربيين، وما أسرع ما تعلم الدخول فيه  والخروج منه، إلا شيئا واحدا لم يحسنه أعواما طوالا، وهو هذا الرباط السخيف الذي يديره الناس حول أعناقهم ثم يعقدونه بعد ذلك من أمام عقدة يتأنقون فيها قليلا أو كثيرا!
لم يفتح الله على صاحبنا بتعلم هذا الجزء من زيّه، فكان أخوه يدير له هذا الرباط حول عنقه ما عاشا معا في مونبلييه.
فلما افترقا حار الفتى في أمره، ولكن صديقه الدرعمي أخرجه من هذه الحيرة، واشترى له أربطة مهيأة لا تحتاج إلى عناء، وإنما تدار حول العنق في يسر ويجمع بين طرفيها في يسر أيضا، وقد هيئت عقدتها فليس محتاجا إلى أن يتكلف عقدها وتسويتها والتأنق القليل أو الكثير فيها، ولكنه كان مضطرا إلى ألا يفكر في الملاءمة بين هذه الأربطة وبين ما كان يتخذ من ثياب. وربما اتخذ منها رباطا واحدا يديره حول عنقه في كل يوم ويمضي على ذلك الأسابيع المتصلة، وربما لاحظ هذا الرفيق أو ذاك من رفاقه اختلافا بين ثوبه ورباط عنقه، وربما أعانه صديقه الدرعمي فتقدم إليه في أن يغير هذا الرباط واختار له ما يلائم زيه مما كان عنده من هذا السخف الذي لم يفهم له معنى قط.
وكذلك عاش الفتى عامه الأول أو أكثر هذا العام، مضطربا في هذه الحياة المادية المختلطة المعقدة من جميع نواحيها. وربما كان يجد بعض الألم في ذلك، ولكنه كان يمر به مرّا سريعا لا يقف عنده ولايفكر فيه إلا قليلا. كان يعزيه عن ذلك إقباله على الدرس، وإحساسه الانتفاع به والتقدم فيه، وشعوره بأنه قد أخذ يفهم الفرنسية في غير مشقة ولا عسر، ويقرأ كتب التاريخ والأدب والفلسفة، فلا يجد في فهمها جهدا ولا عناء، قد انقطع لذلك انقطاعا تاما، فهان عليه منه ما كان صعبا، ويسر له منه ما كان عسيرا.
ولم تكن حياته العقلية أقل تعقيدا والتواء من حياته المادية، فلم يكد يختلف إلى دروس التاريخ والأدب في السوربون حتى أحس أنه لم يكن قد هيئ لها، وأنه لا يفهمها ولا يسيغها كما كان ينبغي أن تفهم وتساغ، وأن درسه الطويل في الأزهر وفي الجامعة لم يهيئه للانتفاع بهذه الدروس.
وكانت آماله عِراضا، فكان ينبغي أن يتخذ إليها أسبابها، وأول هذه الأسباب أن يعد  نفسه لفهم الدروس التي تلقى في الجامعة، وسبيل هذا الإعداد أن يقرأ في أقصر وقت ممكن ما كان التلاميذ الفرنسيون ينفقون الأعوام الطوال في درسه بمدارسهم الثانوية. فليس له بدّ إذن من أن يكون تلميذا ثانويا إذا أوى إلى بيته، وطالبا جامعيا إذا اختلف إلى دروس السوربون.
وما أسرع ما نظر في برنامج المدارس الثانوية الفرنسية، واستخلص منه ما يحتاج إليه، وأزمع أن يدرس منه التاريخ والجغرافيا والفلسفة، وهذه الخلاصات الموجزة التي كانت تلقى إلى التلاميذ عن الآداب الأجنبية الأوربية قديمها وحديثها. قد أقبل على ذلك كله في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد ولا الفتور. واستطاع في وقت قصير أن يحصل من هذا كله ما يحصله التلميذ الذي كان يتقدم إلى الشهادة الثانوية مطمئنا إلى أن الممتحنين لن يردوه عن هذه الشهادة خزيان أسفا.
واستقامت له دروسه في السوربون فجعل يفهمها ويسيغها كما كان يفهمها ويسيغها زملاؤه الفرنسيون. واختار لنفسه أستاذا من أساتذة المدارس الثانوية يعلمه اللغة الفرنسية تعليما منظما، فلم يكن يكفيه أن يفهم إذا سمع، وأن يفهم الناس عنه إذا تحدث إليهم، وإنما كان يجب عليه أن يحسن العلم بحقائق هذه اللغة ودقائقها وأن يكتبها كتابة لاتنبو عمن يقرؤها.
وكان يقدر أن الأساتذة في السوربون، سيكلفونه بعض الواجبات المكتوبة، كما كانوا يكلفون غيره من الطلاب. فلم يكن له بدّ إذن من أن يتهيّأ لتحرير هذه الواجبات حين تطلب إليه على وجه لايعرضه للسخرية والازدراء. وما أكثر ما كان الأساتذة يسخرون من طلابهم إذا كتبوا لهم الواجبات فقصروا في بعض نواحيها! وكان الأساتذة يقرؤون بعض هذه الواجبات، يختارون من بينها للقراءة أشدها تعرضا للنقد، ثم يأخذون في هذا النقد على نحو لاذع ممض يحرضون به الطلاب على أن يحسنوا العناية حين يكتبون. وكانت سخريتهم بالمقصرين تضحك الزملاء وتخرجهم أحيانا عن أطوارهم.
فكرِهَ الفتى أن يتعرض لبعض هذه السخرية، ولكنه تعرض ذات يوم لشرّ منها. كلفه أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية فيمن كلف من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبية في فرنسا بعد سقوط نابليون، فأقبل على هذا الموضوع فدرسه كما استطاع في الكتب التي نبه إليها الأستاذ، وفكر فيه كما استطاع أيضا. ثم كتب عنه ما أتيح له أن يكتب، وقدمه إلى الأستاذ في اليوم الموعود. وجاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قُدّم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا منددا متندرا موبخا بعض الطلاب أحيانا، حتى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقبا بهذه الجملة المرة التي لم ينسها قط: "سطحي لا يستحق النقد". وكان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضّه بقية يومه، وأقضّ مضجعه حين أقبل الليل، وأشعره بأنه لم يتهيأ بعد كما ينبغي ليكون طالبا في السوربون، فألحّ في درس الفرنسية، وكلف نفسه في هذا الدرس من الجهد الثقيل والعناء المتصل ما كاد يصرفه عن غيره من الدروس. وأعرض عن المشاركة في كتابة الواجبات حتى تتم له أداة هذه الكتابة وهي اللغة الفرنسية.
وبينما كان الفتى يُمتحن بأثقال هذه الحياة المادية والعقلية العسيرة، مجاهدا ما استطاع الجهاد، مروعا بين حين وحين بهذا اليأس الذي كان يتراءى له من وقت إلى وقت فيشقيه ويضنيه، فتح له باب من أبواب الأمل لم يكن يقدر أنه سيفتح له في يوم من الأيام. ألمت علة طارئة بصاحبة ذلك الصوت العذب الذي كان نعيمه الوحيد في حياته الشاقة المظلمة، فأقبل يعودها وجلس يتحدث إليها، ثم لم يدر كيف التوى به الحديث، ولكنه سمع نفسه يلقي إليها في صوت أنكره هو قبل أن تنكره هي: أنه يحبها.
ثم سمعها تجيبه بأنها هي لا تحبه.
وقال: وأي بأس بذلك؟
إنه لا يريد لحبه صدى ولا جوابا وإنما يحبها وحسب.
فلم تجبه، وغيّرت مجرى الحديث، وانصرف عنها بعد ساعة، وقد استقر في نفسه أن حياته ستسلك منذ ذلك اليوم طريقا جديدة.
وليس من شك في أن نفسه كانت قد تعلقت بذلك الصوت العذب ثم بصاحبته منذ وقت طويل.. وإلا فما جزعه حين اضطر إلى العودة إلى مصر؟. وما اتجاهه بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه؟.. وما شوقه العنيف إلى العودة إلى فرنسا ليسمع فيها ذلك الصوت؟.. وما خروجه عن طوره حين وجد الرسالتين اللتين كانتا تنتظرانه في نابولي؟.. وما إلحاحه على صاحبه الدرعمي في أن يقرأ عليه هاتين الرسالتين مرة ومرة حتى أمله؟.. ثم ماحرصه على أن يسمع هذا الصوت في باريس؟... وما نزوله في بيته ذاك الذي كان يسمع فيه هذا الصوت يتردد في كل ساعة من ساعات النهار، ويلقي فيه صاحبة الصوت حين يريد لقاءها دون أن يتكلف لذلك جهدا أو سعيا أو انتظارا؟.. وما سعادته بأنه كان يقيم في هذا البيت غير بعيد من ذلك الشخص الذي كان يلقي عليه تحية الصباح حين يخرج من غرفته، ذاهبا إلى السوربون ويلقي عليه تحية المساء، حين يتقدم الليل ويأوى أهل البيت إلى مضاجعهم. ويقرأ عليه بين ذلك ماشاء الله من آيات الأدب الفرنسي؟
ولكن حبه كان يستحي حتى من نفسه فينكرها، وكان الفتى يخفي شعوره ذاك في أبعد ما يمكن أن يستقر من أعماق ضميره، ويكره أن يتحدث به إلى نفسه، وقد استيقن أنه لم يُخلق لمثل هذا الشعور وأن مثل هذا الشعور لم يخلق له.. وأين هو من الحب؟ وأين الحب منه؟
إنما كتب عليه أن يعيش كما عاش مثله الأعلى ذلك الذي وقف حياته منذ قرون طوال في دار من دور المعرة على الدرس ممعنا فيه، غير معنّى إلا به، محرما على نفسه ماأباح الله للناس من طيبات الحياة.
كان الفتى يطوى نفسه على شعوره ذاك يائسا منه ومن عواقبه، راضيا بما يتاح له من سماع ذلك الصوت ومن الحديث إلى صاحبته حين يتاح له الحديث إليها، واثقا بأن هذا أقصى ما يمكن أن يساق إليه من النعيم.. غير طامع في أكثر منه... وكان واجدا على الحياة والظروف لأنها تحول بينه وبين أكثر منه.
ولكن العلة الطارئة التي ألمت بصاحبته، والصوت العذب الذي أدركه  الضعف وشاع فيه الفتور، والإشفاق من الألم والجهد، على ما كان يكره له أن يحس الألم أو يحمل ثقل الجهد،  كل ذلك ملك عليه أمره، وملأ عليه قلبه، وأنساه تحفظه وتحرجه، وأجرى على لسانه تلك الكلمة التي أنكرها. وليس غريبا بعد ذلك أنه لم يجد حزنا ولا شقاء ولم يحس لوعة ولا ألما حين بلغ مسمعه الرد على كلمته تلك موئسا مقنطا. فهو لم يكن ينتظر إلا اليأس والقنوط، قد وطّن نفسه عليهما وعزّى نفسه عنهما بما كان يُمعن فيه من الدرس والتحصيل.
وهو قد انصرف عن صاحبته في ذلك اليوم راضيا عن نفسه ساخطا عليها. راضيا عنها لأنها قالت ما لم يكن بدّ من أن يقال. ساخطا عليها لأنها عرّضته بهذه الكلمة لشر عظيم، فهي قد عرضته لإشفاق تلك الفتاة عليه ورثائها وضيقها به. ومن يدري لعلها تريد أن تصرفه عنها صرفا، وأن تلقى بينها وبينه حجابا يقطع تلك الأسباب العذاب التي كانت تتيح لهما اللقاء والاستمتاع العقلي والشعوري بما كانا يقرأان معا من آيات الأدب الفرنسي.
ومن يدري لعل هذه الحكمة التي ألقاها في غير تدبّر وعن غير إرادة أن ترده إلى تلك الظلمة المظلمة التي ظنّ أنه قد خرج منها، وأن تضطره في يوم قريب أو بعيد إلى أن يترك ذلك البيت ويلتمس له مسكنا آخر لايسمع فيه ذلك الصوت، ولا يلقي فيه ذلك الشخص، ولايجد فيه شعور الرضا والنعيم.. وإنما يجد فيه شعورا آخر كله سخط مرّ وحزن ممضّ وألم مفسد للحياة.
عاش صاحبنا بين هذا السخط وذلك الرضا أياما لم يكد ينتفع فيها بقراءة أو درس، ولم يكد يذوق فيها للحياة طعما.
ولكنه يلقى صاحبته بعد أن انجلت عنها غمرة العلة، فإذا هي كعهده بها لم تتغير، لم تزدد إقبالا عليه، ولم يجد منها إعراضا عنه ولانفورا منه، وإنما هي تلقاه كما تعوّدت أن تلقاه رفيقة به عطوفا عليه، وتقرأ له كما تعودت أن تقرأ له، وتبين له ما يشكل عليه في أثناء القراءة، كما تعودت أن تفعل من قبل، فيردّه ذلك إلى شيء من الأمن، ثم إلى شيء من الدعة وراحة البال. وتنقضي أيام. وإذا ذلك الشعور الخفي العميق الذي ظهر فجأة في ساعة من الساعات ثم استحيا وعاد إلى مستقره ذلك من أعماق الضمير، يظهر مرة أخرى، ولكن في تحفظ وتردد وأناة، لا يتحدث إلى الفتاة بشيء حين يلقاها، وإنما يمكن في مستقره من أعماق الضمير.
حتى إذا تقدم الليل وخلا صاحبنا إلى نفسه، وهمّ أن يستقبل النوم خرج ذلك الشعور من مكمنه، وذاد النوم عن صاحبه، وجعل يسامره حتى يوشك الصبح أن يسفر، ثم يعود إلى مكمنه ذاك، ويسلم الفتى إلى نوم قصير.
ولم تلبث آثار هذا الأرق المتصل أن تظهر، وأن يلحظها أهل البيت، وتلحظها معهم ذات الصوت العذب، وهم يسألونه عن أمره فيلتوى بالجواب، وهم يريدون أن يعرضوه على الطبيب فلا يستجيب لما يريدون، وإنما يزعم لهم أن ليس به بأس.
وما يزال هذا شأنه حتى يظهر عليه بعض الضرّ. وتسأله الفتاة ذات يوم- وقد خلت إليه تقرأ عليه بعض ما كانا يقرأان- فيريد أن يلتوي بالجواب، فتلحّ عليه، وإذا هو ينبئها مريدا أو غير مريد بأمره كله.
فتسمع له، ثم تسكت عنه، ثم تأخذ في القراءة حتى إذا أتمها وهمت أن تنصرف قالت له في رفق: وإذن فماذا تريد؟
قال الفتى: لا أريد شيئا.
قالت: فإني قد فكرت فيما أنبأتني به، وأطلت فيه التفكير، ولم أنته بعد إلى شيء، وقد أوشك الصيف أن يظلنا وسنفترق، فاصبر حتى إذا كان افتراقنا فستتصل بيننا الرسائل كما تعودنا أن نفعل، فإذا قرأت في بعض رسائلي أني أدعوك إلى أن تنفق معنا بقية الصيف فاعلم أني قد أجبتك إلى ما تريد، وإن لم تقرأ هذه الدعوة حتى ينقضي الصيف فاعلم أنها الصداقة الصادقة بينك وبيني ليس غير.
ولم يسعد الفتى بشيء قط كما سعد بهذا الحديث، وكانت آية سعادته أنه أطرق لم يقل شيئا.
وأقبل الصيف وكان الافتراق. ذهبت هي إلى قرية في أقصى الجنوب.. وأقام هو في باريس، واتصلت بينهما الرسائل، ولكنها قبل أن تفارقه كلفت زميلة له أن تكون هي الكاتبة القارئة لرسائلهما حتى لايطلع على هذه الرسائل زميل من زملائه.
واتصل الفراق شهرا.. ولكن رسالة تصل إليه في آخر هذا الشعر وفيها الدعوة المرتقبة إلى أن يقضي معها ومع أسرتها بقية الصيف... وإذن فقد تحقق أمله، أو كاد أن يتحقق، وهو يعلن إلى زملائه المصريين أنه سيترك باريس إلى حيث يقضي الصيف مع تلك الأسرة وهم يصدّونه عن ذلك مشفقين عليه.
ولكنه مصرّ على ما أراد، فيصحبه صديقه الدرعمي ذات مساء إلى حيث يضعه في القطار، ويوصي به بعض من فيه.. وينصرف عنه ويدعه وحيدا. وينفق الفتى ليلا في القطار، لايدري أقصر أم طال، لأنه لم يفكر في أثنائه إلا في هذا اللقاء الذي سيكون حين يرتفع الضحى ويبلغ القطار غايته، وإذا الصوت العذب يدعو صاحبنا في رفق وعطف وحنان، ويشعر بأنه منذ اليوم سيخلق خلقا جديدا...

0 comments:

إرسال تعليق