السبت، 25 يناير 2014

قصة منتهى القوة

منتهى القوة
(من مجموعة ‘وكر الوطاويط’)
كانت البداية وهو صبي في السابعة من عمره... وكانت أخته الكبيرة التي تجاوزت الرابعة عشرة من عمرها قد تعودت أن تصحبه كلما خرجت إلى الشارع، فإن تقاليد العائلة تحرم عليها أن تخرج وحدها... فتخرج في حماية أخيها الصغير... ولم يكن يخطر على إحساس محمود أنه يحمل مسؤولية حماية أخته... ولم يكن يحس بأنه صغير أو كبير.. أو قوي أو ضعيف... ليس في حياته ما يدفعه إلى تقدير أنه لايزال صغيرا ولا إلى التطلع إلى يوم أن يكون كبيرا... كما أنه ليس فيه ما يجعله يحس بضعف أو بقوة... إنما يفرح بصحبة أخته كوثر إلى الشارع لأنه يحب أن يكون بصحتها دائما... ويحب الشارع... إلى أن صحبها يوما إلى زيارة إحدى صديقاتها، وفي عودتهما كانا يسيران في حارة ضيقة هادئة تصدى لهما شاب، وبدأ يلقي بكلمات على كوثر... وكلما همت أن تبتعد عنه يلتصق بها أكثر.. حتى أخذت تشتمه وتصرخ في وجهه... ولكنه يصر على الاستيلاء عليها حتى أمسك بذراعها، كأنه يهم أن يهرب بها... وصاح محمود فيه وهو لا يدري ماذا يريد هذا الشاب، ولكنه يكفي أن أخته بدأت تصرخ:
-                   دع أختي...
ولكن الشاب نظر إليه في استهانة وقال ساخرا:
-                   اسكت أنت يا شاطر...
ولم يسكت محمود، ولكنه أخذ يصرخ ورفع قدمه وضرب بها الشاب على ساقه...  ورفع الشاب يده وصدم بها وجه محمود.. ودفعه بعيدا عنه وأسقطه على الأرض... وأخذ محمود يبكي ويصرخ بأعلى الصراخ، وهو راقد على الأرض... والشاب لايزال ممسكا بذراع أخته يحاول أن يشدها وراءه.. وبالصدفة مر بالحارة رجلان أسرعا ناحية صراخ محمود... ولمحهما الشاب فترك كوثر وفر هاربا...
وانتهى الحادث بسلام... ومحمود يسير بجانب أخته كوثر وهو لايزال يبكي... وهي تواسيه وتحاول أن تقنعه بأن كل فتاة معرضة لاعتداءات مثل هؤلاء الشبان... والفضل له في إنقاذها... ثم بدأت تلح عليه ألا يروي شيئا مما حدث لأحد من العائلة بعد أن يصلا إلى البيت... ربما كانت تخشى لو علم أبوها أو علمت أمها بما حدث لحرمت من الخروج إلى الشارع مع أخيها الصغير، وفرضوا عليها ألا تخرج إلا في صحبتهما أو في صحبة أحدهما أو في صحبة أخيها الأكبر...
وفعلا... تعمد محمود ألا يروي ما حدث لأحد... ومرت عليه أيام وهو ساهم... لقد واجهته لأول مرة مشكلة لم يكن يعرفها من قبل، وهي مشكلة أنه لايزال صغيرا... وأي صغير يعتبر ضعيفا أمام من يكبره سنا... حتى يكفي أن يدفعه الكبير بيده دفعة واحدة فيلقي به على الأرض كما حدث له... وبدأ يحس بأمنية أن يصبح كبيرا... والأهم أن يصبح قويا... بل قويا جدا.. وأن يزود جسده بعضلات تكفي ليضرب بها من يريد ضربه.. أو يضرب من يحاول الاعتداء عليه أو على أخته...
وبدأ العنصر الجديد يسيطر على كل حياته.. عنصر التزود بالقوة الذاتية.. قوة عضلاته.. قوة الضرب...
وقد بدأ وهو في صباه يقف أمام المرآة طويلا، ويحرك أطرافه بالتمرينات الرياضة التي يعرفها أو يسمع عنها... ثم وجد في البيت قطعتين صغيرتين من الحديد المخصص لتمرينات رفع الأثقال الخفيفة مهملتين في ركن من الأركان... ربما كان أبوه يتمرن بهما وهو شاب... فأخذهما وبدأ يتمرن بهما ويقوي عضلاته وهو واقف أمام المرآة.. وأصبحت إحدى متاعب أمه أن تأخذه من أمام المرآة ليتفرغ لمذاكرة دروس المدرسة..
واكتشف محمود بالصدفة مجلات للأطفال تنشر قصصا عن معارك البطولات.. وهي قصص مزودة بالصور المرسومة لحركات الضرب التي ينتصر بها البطل على غريمه.. وأخذ يدقق في كل صورة، ويكتشف كل حركة من حركات الضرب.. ويقوم يرددها بنفسه أمام المرآة... يضرب بذراعه أو يرفع ساقه ويضرب بقدمه أو يلفت بذراعيه حول ظهر الغريم... أو... أو.. ومر عام أو عامان وتعدى التاسعة من عمره عندما عرف أفلام الفيديو.. ولم يعرف منها إلا الأفلام التي تصور البطولات... بطولات الضرب.. ويتعلم من كل فيلم ضربات جديدة.. وقد اتفق مع صبية الحي على المشاركة في استئجار أفلام الفيديو لمشاهدتها.. فإيجار الفيلم يصل إلى جنيهين ونصف جنيه لمدة يومين.. وأصبح كل واحد منهم يدفع عشرة قروش ويستأجرون فيلما واحدا، يشاهدونه معا أو يتنقلون به بين كل من يملك جهاز فيديو في بيته... والأهالي مستسلمون لنزوة أبنائهم فرحين بأنهم كونوا شركة أو بنكا من بينهم لاستئجار أفلام الفيديو، مما يخفف عن كل واحد قيمة الإيجار.. ومن يدري.. ربما لو لم يتشاركوا في استئجار أفلام الفيديو لاضطر الواحد منهم إلى أن يسرق أو يرتكب جريمة للحصول على الفيلم.. فقد أصبح الفيديو شهوة عارمة لا يمكن أن يقاومها الصبية...
وكان في بدايته لا يقبل على اللعب مع أطفال الحي.. ولكنه بدأ يفرض نفسه على كل لعبة.. سواء كانوا يلعبون كرة القدم.. أو "استغماية"... أو ليّ الأذرع...وكان في كل لعبة يحاول أن يثبت أنه قوي.. حتى وإن لم يكسب اللعبة فإنه يفرض قوته على من يلعب معه.. وأصبح يدخل في معارك مع كل الأطفال.. يصارع ويضرب.. وكان أحيانا يهزم... فلا ينسى هزيمته بل يستمر في التزود بالقوة حتى ينتصر على الصبي الذي غلبه..
وبدأ يعرف بين الصبية بأنه قوي العضلات.. وأصبح بقية الصبية يخافونه.. ولو أنهم يحبونه لأنه يجد لهم دائما ما يلعبونه ومايزحم أيامهم بالحركة والتهليل والصراخ.. وهو مستمر في التزود بالقوة.. وقد التحق بالنادي الرياضي القريب.. وأقحم نفسه على كل الألعاب.. وكانت قمة ماتجذبه هي لعبة المصارعة.. وقد تفوق فيها إلى حد أن أصبح مرشحا للتقدم للبطولات..ولكنه اكتشف أن المصارعة أصبحت لعبة قديمة لا تنفع في مواجهة المعارك المودرن.. إن اللعبة الحديثة هي لعبة الكاراتيه.. وتفرغ كله للتدريب على الكاراتيه.. واستوعب كل تفاصيلها.. وأصبح حتى وهو وحده واقف أمام المرآة يتحرك تحركات الكاراتيه، كأنه يرقص على موسيقي تنطلق بها أحاسيسه..
وكبر عشر سنوات.. أصبح في السابعة عشرة من عمره.. وأصبح معروفا في الحي والنادي والمدرسة بأنه مخيف رهيب كأنه فتوة من بين الفتوات الذين يفرضون قوتهم على كل من حولهم.. حتى أنه استطاع أن يشتري مطواه قرن غزال بعد أن سمع عنها، وعن إمكانية الانتصار بها في كل معركة.. وأصبح يحتفظ بها دائما في جيبه.. وأحيانا يعلقها خارج جيبه كأنه يهدد بها كل من يتجرأ عليه..
ورغم كل ذلك فلم يكن أبدا مكروها؛ لأنه دائما عنده ما يبرر فرض قوته.. وكل ذلك وهو لاينسى حادث محاولة الاعتداء على أخته وعليه، عندما كان صغيرا في السابعة من عمره.. حتى أنه كان يجد نفسه أحيانا يسير في الشارع وكأنه يبحث عن هذا الشاب الذي اعتدى عليه... إنه لايمكن أن ينساه أو ينسى شكله أبدا.. إلى أن رآه فعلا بعد هذا العمر الطويل وفي نفس الحارة التي سبق أن اعتدى عليه فيها.. وأخذ يبحلق فيه من بعيد.. إنه كبر عاما كان عليه.. ربما كان أيامها في التاسعة عشرة وهو الآن في التاسعة والعشرين.. وهو يبدو ضعيفا أو على الأقل في قوة عادية، وليس كما كان يتصوره في منتهى القوة.. ولكنه لاشك أنه هو نفسه فإنه لم ينس أبدا تفاصيل ملامح وجهه.. وفاجأه بالهجوم عليه.. وفي حركة من حركات الكاراتيه أمسك بكتفيه ولصق ظهره على الجدار القريب وقال له وهو يكاد يعصره على الحائط:
-                   هل تذكرني؟
وقال الرجل وهو يحاول التخلص من بين يدي محمود:
-                   أنا لا أعرفك... من أنت.. ماذا تريد مني؟
وقال محمود وهو يبتسم ساخرا:
-                   أنا من اعتديت عليه وأنا صغير، وحاولت أن تعتدي على أختي...ولم أنس.. وسأرد عليك الاعتداء.. ولكني لن أعطيك أكثر مما أعطيتني..
ورفع يده بسرعة ولكم الرجل في وجهه لكمة قوية وقال:
-                   هذا نظير تبجحك على أختي..
ثم حرك ساقه وذراعيه في حركة من حركات الكاراتيه وألقى بالرجل على الأرض قائلا:
-       وهذا رد على ما فعلت بي.. وتستطيع الآن أن تبكي وتصرخ لتجمع الناس حولنا كما فعلت أنا أيام زمان..
ولكن الرجل لم يبك ولم يصرخ ورفع ذراعيه متوسلا إليه:
-       أعمل معروفا.. أنا في عرضك.. دعني في حالي.. وحياة النبي..
وترك محمود الرجل ملقى على الأرض وابتعد عنه سائرا في طريقه، وهو يحس براحة تدفعه إلى الإحساس بمنتهى الغرور.. لقد أخذ ثأره من العدو الوحيد الذي ظهر في حياته.. واستطاع أن ينتصر على شاب أكبر منه سنا دون أن يشهر مطواه قرن الغزال.. بل دون أن يحتاج إلى أكثر من ضربة واحدة..إنه لم يستكمل الإحساس بمنتهى القوة إلا يومها..
وعاش وحياته كلها مركزة على تنمية وتربية عضلات جسده.. حتى يصبح أقوى.. وأقوى.. وأقوى.. أصبح كأنه فنان موهوب بفن الوصول إلى منتهى القوة العضلية.. كفنان تربطه موهبة بالتمثيل أو الغناء أو لعب الطاولة أو الكوتشينة، فهو تربطه مواهبه بقوة عضلاته.. وهو يعيش الفن للفن.. أي لا يحاول أن يستغل قوته في تحقيق مكاسب شخصية.. ولا يبدأ بالاعتداء على أحد.. إنما كل ما يهمه هو التباهي بفنه في مباريات رياضية.. سواء كانت مباريات عامة أو خاصة.. ولا تجمعه جلسة مع أصدقائه ومعارفه إلا ويمد ذراعه لكل منهم ليلاعبه "بلودي فير" أو "لي الذراع".. أو يتحداهم بأن يتقدم واحد منهم ويلاعبه كاراتيه.. أو مصارعة حرة.. حتى لو لاعبه داخل المقهى أو البيت.. وبلغت به هوايته إلى حد أن أصبح متخصصا في اختيار الأطعمة التي تساهم في تقوية العضلات.. ويحفظ جداول كاملة عن كمية وأنواع الفيتامينات التي تتجمع في كل شيء يؤكل.. وأصبح حريصا على إذابة كل نوع في بطنه بكمية محسوبة تزيده من الاحتفاظ بالقوة.. وهو يأكل البصل بكمية محسوبة.. والفجل.. والجرجير.. ولا يأكل اللحم إلا بعد شوائه نصف شواء.. أي أقرب إلى أن يكون نيئا.. ثم اكتشف طبق "الكبةالنيئة" الذي يعتبر من عناصر الشخصية اللبنانية.. إنه طبق من اللحم النيء يوفرون له سهولة الهضم ومتعة الطعم..وبدأ يتعمد الحصول على أطباق من الكبة النيئة..هذا بجانب اهتمامه بأكل الكوارع والبطارخ والسمان والعصافير، وكل ما يقتنع بأنه يحمل فيتامينات تقوي العضلات وتطلق حرارة الصحة.. إنه يزداد قوة.. إنه يحس بأنه أقوى رجل في العالم.. وإن كان لا يخطر على باله أي شيء يستغل فيه هذه القوة العارمة.. فقط يعيش مزهوا بإحساسه أنه أقوى..
ولم يكن يهتم كثيرا باستذكار دروسه.. ولكنه ينجح دائما.. وكان مقتنعا بأن قوة عضلاته تنعكس على قوة عقليته، وتوفر له النجاح في كل امتحان، حتى لو لم ينجح متقدما على بقية الطلبة فيكفيه أنه ينجح... لأنه قوي...
إلى أن تخرج من الجامعة.. ولم يهتم بأن يكون خريجا.. بل لم يقدره أحد كخريج جامعي.. ولايزال كل ما يعرفه عن نفسه ومايعرفه الناس عنه أنه قوي.. في منتهى القوة.. مشهور بأنه فتوة.. رغم أنه لا يمارس شخصية الفتوة الذي يفرض رأيه.. إنما يكفي مظهره وتكفي سمعته لاستكمال الشخصية التي يهابها كل من يتعامل معه..
وكان عبد الباسط جدعون وهو من كبار رجال الحي قد أصبح وزيرا في الوزارة.. وبمجرد أن حصل محمود على شهادته الجامعية سعى إلى أن عينه في الحكومة، وعهد إليه بأن يكون أحد أفراد موظفي مكتبه.. أي أحد أفراد السكرتاريه..
ولم يعهد الوزير إلى محمود بأي عمل محدد، ولكنه راعى بنفسه أن يجلسه على مكتب ملاصق لباب غرفة مكتبه.. مكتب الوزير.. ووضعه بجسده القوي وعضلاته المفتولة كأنه الأسد الجالس على مدخل كوبرى قيصر النيل.. كما أن الوزير كان يصحبه في كل تنقلاته وتحركاته خارج مكتبه.. ورغم  تعدد رجال البوليس الذين يحيطون به دائما في كل خطواته، كأنه يعتمد على دبابة تتحرك أمامه لتطلق النار على كل من يحاول الاعتداء عليه..
وقد عرف محمود منذ عين في الوزارة أن الوزير لا يريده إلا لحمايته من أي محاولة للاعتداء عليه، أو لصد مجرد التجرؤ عليه.. ورحب بهذه المهمة مزهوا باعتراف الوزير بقوته.. حتى لو كانت مجرد قوة عضلاته.. وهو يعرف أن كل وزير أصبح في حاجة إلى فتوة يحميه.. وكثيرون منهم لا يكتفي الواحد منهم بالاعتماد على قوة البوليس.. بل يختار لنفسه حارسا خاصا يعتمد عليه أكثر.. ولا شك أن الوزير عبد الباسط جدعون أصبح أقوى الوزراء اطمئنانا على نفسه لأنه اختار محمود حارسا له..ورغم ذلك لم يكن محمود يتخذ لنفسه مظهر الحارس.. ولم يكن يعتمد إثبات قوته في مواجهة المترددين على مكتب الوزير.. أو يشوح بعضلاته، وهو يسير أمامه مفسحا له الطريق مهددا كل من يعترضه.. إنما كان دائما هادئا بسيطا مهذبا ومبتسما في تواضع، كأنه مكتف بما يوحى به مظهر قوامه وعضلاته وملامح وجهه من قوة.. ولم يحدث إلا مرة واحدة عندما دخل عليه رجل اسمه خليل يريد مقابلة الوزير لأمر هام، ومحمود كان قد أصبح قادرا على تقدير من يسمح لهم بمقابلة الوزير..فاعتذر له محمود في أدب بأن الوزير مشغول.. ولكن خليل أصبح يتردد على محمود كل يوم ملحا في مقابلة الوزير.. ثم جاء في يوم ورفع صوته صارخا مطالبا بالمقابلة... وصاح:
-       يجب أن تعرف أن وزيرك يتشرف بمقابلتي... وأني لولا الظروف لما تنازلت بطلب مقابلته.. لقد كان خادما من خدمي وكنت سيده.. ولايزال خادمي وأنا سيده.. حتى بعد أن أصبح وزيرا..
وكان خليل يصرخ هذا الصراخ وهو يشوح بيديه في وجه محمود..
واكتفى محمود بأن مد يده وقبض على إحدى يدي خليل، وضغط عليها بقوة كأنه ينوي أن يحطم كل عظمها ويعصرها.. وصرخ خليل مستغيثا من الألم... وظل محمود يعصر في يده حتى سقط خليل على الأرض وهو يصيح:
-       لا أريد مقابلة الوزير.. خلاص.. حرمت..
وتركه محمود يفر خارج مكتبه.. ولم يظهر أمامه مرة ثانية.. ولم يحدث أي حادث آخر دفعه إلى الاستعانة بقواه كحارس أمين للوزير.. ومضت الشهور وشخصيته البسيطة الهادئة تجمع حوله كل موظفي الوزارة من الشباب، حتى بدأ يلقي على كل من يجتمع بهم أحاديث طويلة على التمرينات الرياضية ووسائل اكتساب قوة العضلات إلى أن بدأ في تكوين فرقة لألعاب الكاراتيه داخل الوزارة.. بعد استئذان الوزير طبعا...
وكان على الوزير أن يسافر إلى روما لإجراء مفاوضات هناك مع الحكومة الإيطالية..واختار محمود ليرافقه.. ولم يكن من حقه أن يأخذه كحارس فإن معه اثنين من ضباط البوليس يرافقانه بحكم اللائحة.. لذلك فقد أخذه معه كسكرتير خاص.. وإن كانت مهمة هذا السكرتير لم تتغير.. ولاتزال محصورة في حماية جناب الوزير من أي اعتداء عليه.
وفرح محمود فرحة كبرى بأنه سيرى روما ويعيش فيها بضعة أيام، إنه مقتنع بأن الشعب الإيطالي هو أقوى شعب رياضي في العالم منذ فجر التاريخ.. إنه الشعب الذي انتصر بقوته على الشعب المصري أيام كليوباترا.. ولم تكن الحروب أيام كليوباترا تعتمد على قوة السلاح، ولكنها كانت تعتمد على قوة عضلات المتحاربين.. وهو يريد أن يرى هذه العضلات..ربما كانت العضلات في إيطاليا لاتزال تستطيع أن تهزم عضلاته... وهو يتمنى أن يثبت العكس..  يريد أن ينتصر بعضلاته على عضلات أي إيطالي..
وفي اليوم الأول من وصوله إيطاليا استطاع أن يكتسب صداقة يوسف كمال.. وهو شاب موظف في السفارة المصرية بروما، وقد ولد وعاش في إيطاليا حتى أنه يعتبر إيطاليا مصريا... وهو يعرف كل شيء عن الحياة الإيطالية.. ومحمود يسأله كثيرا عن كل ما يهمه أن يعرفه عن مظاهر قوة العضلات في إيطاليا... ويوسف يروي له حكايات مثيرة تبهر خياله.. وكان الوزير يقوم باتصالاته وتنقلاته حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ثم ينام حتى الساعة السابعة.. وكان محمود في هذه الفترة يصحب يوسف ليأخذه إلى مشاهدة مباريات هذا النوع من الألعاب الرياضية الذي يعتبر نفسه متخصصا فيه.. مباريات في رفع الأثقال.. أو في المصارعة الحرة.. أو الكاراتيه.. ويذهل من تفوق الإيطاليين في هذه الألعاب.. ولكنه استطاع أن يتغلب على ذهوله وطلب من يوسف أن يقدمه لمنازلة أحد الإيطاليين في مباراة خاصة، وبصفة شخصية وليست مباراة عامة، واختار أن يبدأ بمباراة في المصارعة الحرة.. واستطاع يوسف أن يجمعه بأحد المصارعين في أحد النوادي.. وبدأ محمود يلعب المصارعة، وهو مصمم على أن تنتصر العضلات المصرية على العضلات الإيطالية.. ولكن لم تمض دقيقة أو دقيقتان على المباراة.. حتى كان محمود قد هزم هزيمة نكراء... وقد تحمل الهزيمة دون أن يفقد عناده.. وأقنع نفسه بأنه أخطأ بأن اختار المصارعة الحرة فقد مضى عليه وقت طويل لم يمارس فيه المصارعة.. إنما كان متفرغا لمصارعة الكاراتيه..وطلب من صديقه يوسف أن يعد له مباراة حبية في الكاراتيه.. ولم تمض دقائق حتى كان قد هزم أيضا في الكاراتيه..
وقال له يوسف وهما في خلوة هادئة:
-       هل تدري ما سر قوة أفراد الشعب الإيطالي...
وقال محمود ساخرا:
-       لعلهم يستمدون قوة أجسادهم من أكل المكرونة الاسباجيتي...
وقال يوسف في لهجة جدية كأنه يعرض موضوعا علميا:
-                   لا.. إنهم يستمدون قوتهم من شرب النبيذ.. إنه عصير العنب.. والإيطاليون متفوقون في إعداد مشروب النبيذ.. بحيث يزودونه بنوع من الفيتامنات خاص بهم يهبهم كل هذه القوة.. وأكثر من ذلك.. إن كل طفل إيطالي يولد يحمله أبوه بعد اليوم السابع من مولده ويغطسه في برميل من هذا النبيذ.. غطسة سريعة ينتشله بعدها بسرعة... إن هذه الغطسة تكفي لتمتص كل خلايا الطفل فيتامينات تكفي لإمداده بالقوة طوال حياته.. تماما كما نلجأ في الزراعة إلى صب المقويات والمبيدات على الحبوب لتنبت في أعواد سليمة قوية وتعطي ثمارا سليمة قوية..
وقال محمود ضاحكا:
-       أي أني لن أهزم أي لاعب إيطالي إلا إذا شربت من هذا النبيذ..
وقال يوسف كأنه يحرضه:
-       جرب.. ولنبدأ التجربة حالا..
ولم يكن محمود قد شرب أي قطرة من الخمر طوال عمره.. والنبيذ خمر، وهو يرفض أن يعرض نفسه لأن تسكره الخمر.. ولكن يوسف أقنعه بأنه لن يشرب هذا النبيذ ليسكر.. إنه يشربه كمجرد فيتامين يستكمل به قوته..ولن يسكر.. ثم نادى الجرسون وطلب زجاجة من النبيذ صب منها كأسا لمحمود، وهو يحدد له الكمية التي يمكن أن يشربها دون أن يسكر..
ولم يحس محمود بأن سكران بعد أن شرب كؤوس النبيذ التي حددها له يوسف.. ولكنه في الوقت نفسه أحس كأنه أصبح أقوى.. يحس بنبضات قوية تسري في كل عضلاته.. بل أحس كأنه يريد أن يلعب حالا ماتش كراتيه حتى لو لاعب يوسف..
وفي اليوم التالي، عاد وشرب كؤوس النبيذ دون أن يسكر.. وكان يوسف قد حدد له موعدا لمباراة خاصة في أحد النوادي للعب الكاراتيه مع شاب إيطالي.. وانتصر محمود.. تغلبت العضلات المصرية على العضلات الإيطالية.. وإن كان قد استغرق مدة أطول حتى حقق هذا النصر..
ولم يحضر على بال محمود أن يقدر هذا اللاعب الإيطالي الذي انتصر عليه قد يكون لاعبا ضعيفا أو أخف منه وزنا.. أو أصغر منه سنا.. أو قد يكون يوسف قد استأجره واتفق معه على أن يدعي الهزيمة أمام محمود نظير الثمن الذي يأخذه.. كل ما تمكن من اقتناع محمود هو أن مشروب النبيذ الإيطالي يحمل فيتامينات خاصة بهذه القوة التي يستطيع أن ينتصر بها على من يلاعبه..
وفي اليوم التالي كان محمود يتناول غداءه مع يوسف وأمامه طبق يحمل جبالا عالية من المكرونة الاسباجيتي.. وقبل أن يرفع المكرونة إلى فمه عاجله يوسف قائلا:
انتظر..
ثم صب على طبق المكرونة من زجاجة النبيذ قائلا:
-       هكذا يأكل الشعب الإيطالي المكرونة..
والتهم محمود طبق المكرونة المغمورة في النبيذ.. ولم يحس بأنه يتعاطى خمرا.. أنه يتعاطى القوة..
وفي نفس اليوم قال له يوسف إن أحد أصدقائه الإيطاليين قد أنجب ابنا ويحتفل باليوم السابع..كما نحتفل نحن بأطفالنا في اليوم السبوع.. وسيأخذه معه إلى هذا الحفل ليرى بنفسه كيف يروي الأب الإيطالي ابنه بفيتامينات القوة كما تروي الحبوب بالفيتامينات الزراعية..
وقضى محمود ليلة في منتهى الصخب والمرح تفوق ليالي الاحتفال بأسبوع الولادة في مصر.. فهي احتفالات ليست مقصورة على الأطفال بل يدعي إليها كل رجال ونساء العائلة والحي.. والجميع يشربون النبيذ وينطلقون بأغنيات مرحة ويتراقصون.. وقد شارك محمود في شرب النبيذ.. ولعله تعدى الحدود التي كان يفرضها عليه صديقه يوسف كمال.. وبدأ يتطوح كأنه سكران، ويرفع صوته بالصياح كأنه يغني معهم رغم أنه لايعرف كيف يغني أي أغنية إيطالية.. ويمد ذراعيه إلى أي امرأة بجانبه ويهتز بها كأنه يراقصها.. وهو لا يعرف كيف يتحرك بهذه الرقصات.. إلى أن توقف كل ما في الحفل مرة واحدة عن الحركة..وانطلقت همهمات هادئة كأنها أناشيد دينية.. ووضع في منتصف القاعة برميل كبير من براميل النبيذ.. ثم تقدم الأب وحمل ابنه الوليد ووقف به على حافة البرميل.. وأخذ يقول كلاما لم يفهم منه محمود شيئا.. ثم رفع ابنه وهو ممسك به من قدميه.. ورأسه مدلى إلى أسفل.. وجسده كله عار.. ثم بسرعة أغطسه داخل برميل النبيذ ورفعه فورا.. والمولود يخرج من البرميل وهو يصيح كأنه يهلل، وكل المدعوّين يهللون ويصفقون كأنهم فرحون يباركون إتمام عملية تدشين الطفل..
ومحمود مذهول بما يجري أمامه حتى أنه أفاق من إحساسه بمتعة النبيذ الذي كان قد شربه.. ووقف مستمرا في ذهوله.. وقال له صديقه يوسف مستطردا:
-       هكذا يدشنون أولادهم.. ويسمدون خلاياهم بفيتامين القوة.. ليكبر ويصبح رجلا قويا..
وأضاف يوسف قائلا له:
-                   حتى عندما يفطمونه.. تبدأ الأم بمسح ثديها بقطرات من النبيذ، حتى يتعود عليه الطفل وهو يرضع.. حرصا على تسميد خلاياه بالقوة حتى يشب وهو مدمن تذوق النبيذ..
ومحمود، يتطور ذهوله إلى فرحته باكتشاف عالم جديد لم يكن يعرف عنه شيئا..
وقد انتهت مهمة الوزير وعاد إلى مصر ومعه محمود.. ولو أن محمود كان يتمنى لو تركه الوزير يعيش في روما.. عاصمة الأقوياء..
ولم يحاول محمود وهو في القاهرة أن يستمر في شرب النبيذ كما تعود في روما.. فهو لن يجد في القاهرة نفس النوع الذي كان يشربه في روما..وهو يعلم أنهم في روما يعدون نوعا خاصا من النبيذ قد لايكون نفس النوع الذي يخرجونه إلى الخارج.. هكذا قال له صديقه يوسف كمال.. وقد جاء يوسف نفسه مرة إلى القاهرة وحمل لمحمود زجاجة من نبيذ روما كهدية.. وعندما بدأ محمود يشرب أحس بأنه نبيذ أقوى في طعمه وتأثيره مما كان يشربه في روما.. وقال له يوسف إنه ليس خلافا في نوع النبيذ.. ولكنه خلاف في الجو الذي يشربه فيه بين جو القاهرة وجو روما.. فطعم النبيذ يختلف باختلاف الجو الذي يحيط بشاربه.. أي في درجة حرارة الجو.. عندما يكون حارا أو باردا.
ورغم ذلك فعندما شرب محمود زجاجة النبيذ أحس كما كان يحس في روما بأنه ازداد قوة.. ويومها لم يكتف بابتساماته وهو في مكتبه في الوزارة بل كان يطلق ضحكات عالية صاخبة.. كما لم يكن يكتفي بهز رأسه تحية لمن يقبل عليه بل كان يمد يده الثقيلة مصافحا كأنه يصيح.. أنا القوي.. ويومها ذهب إلى النادي ولعب مباراتين مع من وجدهم من أبطال.. مباراة في المصارعة الحرة.. ومباراة كاراتيه.. وتحفز ليلعب مباراة ثالثة في الملاكمة.. ولكن الوقت كان قد تأخر والملاعب تغلق أبوابها.. وهو معترف بأن كل ما يهبه انطلاقه في هذا اليوم هو ما شربه من نبيذ روما..
وقد ظلت الأيام التي قضاها محمود في روما مسيطرة عليه وكأنه لايزال يعيش فيها.. وكثير من مظاهر الحياة الإيطالية بدأت تظهر في حياته.. فهو لم يعد يسمع إلا الموسيقي والأغاني  الإيطالية من خلال الشرائط التي عاد بها.. وهو يأكل كل يوم طبقا من المكرونة، وخصوصا المكرونة الأسباجيتي التي أصبح وكأنه أدمنها.. وأصبح يردد بمناسبة أو بغير مناسبة مجموعة الكلمات الإيطالية التي حفظها، ويتعمد أن يتعلم مزيدا من الكلمات.. بل إنه أصبح يتردد على مقهى كوبرى قصر النيل ويجلس فيه طويلا لأنه يذكره بمقهى كان يرتاده في روما.. كأنه يحاول أن يعيش روما وهو في القاهرة..
وخلال هذا العام تزوج محمود.. ولم يكن يعلم شيئا عن تقاليد الزواج في روما حتى يطبقها على نفسه وهو يتزوج في القاهرة..لذلك استسلم للتقاليد العادية.. ولكن لاشك أنهم في روما لا يتزوجون إلا بعد صداقة تجمع المرأة والرجل.. وهو قد تزوج حورية.. وهي موظفة معه في الوزارة، وقد مضت شهور وهما في منتهى الصداقة.. وكانت حورية تجاريه في كل نزعاته الإيطالية.. وتحييه كل صباح.. بونجورنو.. كما أصبحت رائعة في إعداد كل أصناف المكرونة..
وأصبحت حورية حاملا.. وأصبح عقل محمود مركزا في الاستعداد إذا أنجبت حورية ولدا أن يعده ليكون رجلا في منتهى القوة بأن يسمده بالنبيذ.. نبيذ روما بالذات..
وقبل موعد إنجاب الطفل بأسبوعين استطاع أن يسافر على حساب الوزارة إلى روما.. وقد تردد الوزير كثيرا قبل أن يسمح له بالإجازة والسفر.. إنه لم يعد يطمئن على سلامته إلا ومحمود بجانبه.. ولكن محمود صمم على الإلحاح، كما أقنع الوزير بأن يضع مكانه اثنين من الموظفين الشبان معروفين بالقوة ويكفيان لحمايته..
وفي روما استقبله صديقه يوسف كمال.. وانطلق يشرب النبيذ، ويحس بعضلاته تكاد تتراقص بالقوة.. ولكنه لم يطلب من صديقه أن يعد له أي مباراة.. أنه لن يقضي في روما أكثر من يومين.. وكل ما جاء من أجله هو شراء برميل من نبيذ روما مع مجموعة من الزجاجات.. ووضع ما اشتراه في صندوق مغلق حتى يستطيع أن يمر به من الجمارك و يصل إلى بيته في القاهرة..
وعاد محمود في انتظار أن تلد له زوجته حورية ولدا يسمده برحيق القوة..
وقد جاء ولدا فعلا أطلق عليه محمود بمجرد أن ولد اسم "عبد القوي".. أن سيستمد قوته من قدرة الله بعد أن يسمده بقطرات النبيذ..
ثم كان الاحتفال بيوم السبوع...
ودعا محمود كل أطفال ورجال ونساء العائلة والحي.. وفتح زجاجات النبيذ.. والكل يشرب وينطلقون في الغناء والصياح.. إنه حفل أكثر بهجة وضجة من الحفل الذي سبق أن حضره في روما.. وكانوا يرقصون.. ولكنه رقص هز البطن وليس رقصا إيطاليا.. ورفع محمود يده ليسكت الجميع حتى يبدأ في تدشين ابنه بعصير القوة..ولكن زوجته حورية كانت مصممة على أن تبدأ الداية أولا بمراسم الاحتفال.. وقد دخلت تحمل المولود في منخل عريض ووضعته على المائدة، وأخذت تضرب في الهون النحاس وهي تغني.. حلقاتك برجالاتك.. ياسلام سلم على شرباتك.. شوفوا الخفة.. شوفوا الرقة.. وكل المدعوين يغنون معها.. إلى أن انتهت تقاليد الاحتفال المصري بالسبوع.. فأسرع محمود ونقل برميل النبيذ إلى منتصف الحجرة.. ثم رفع ابنه من المنخل العريض وحمله بين ذراعيه، وأشار للمدعوين بالسكوت وقال.. هل تعلمون لماذا تعتبر عضلات الشعب الإيطالي أقوى عضلات في العالم.. إنها العضلات التي حارب بها إسكندر الأكبر كل العالم حتى وصل إلى الهند.. وقد كان يحارب بالسيف.. والسيف لا ينتصر إلا بقوة العضلات.. وهذه القوة لا يمكن أن تتوافر إلا إذا سمد الطفل بالنبيذ.. نبيذ له إعداد خاص ينفرد به الشعب الإيطالي.. وأنا أريد أن يكون ابني أقوى رجل في العالم.. وقد استطعت أن آخذ من روما برميلا يحمل هذا السر.. سر القوة.. حتى أسمد به ابني..
والطفل كان يصرخ كأنه غير مقتنع بما يقول أبوه.. ولا يريد أن يسمد بهذه القوة ولكن أباه محمود لم يأبه بصراخه، ورفعه عاريا وأمسكه من قدميه وترك رأسه مدلى إلى أسفل.. ثم أسقطه في برميل النبيذ وانتزعه فورا.. تماما كما رأى في حفل سبوع الطفل الإيطالي في روما.. ولكن الطفل انتشل من البرميل وهو صامت.. لا يصرخ.. بل لا يتنفس.. وأخذ أبوه يهزه ويدلك فيه ولكنه لا يصرخ ولا يتنفس..
واختطفت الأم طفلها من يد أبيه.. وأخذت تتحسسه في هلع.. ثم صرخت:
-       مات.. ابني مات.. قتلت ابنك يا مجنون..
ثم همجت على زوجها تضرب فيه بيدها صارخة.. قتلت ابني.. قتلت ابني..
وساد الذهول على كل المدعوين.. وكل منهم قال كلمة معزيا ومواسيا.. وانتهى الحفل كما ينتهي أي مناسبة وفاة..
                                * * *
ولم يعدم الحادث من يتطوع من المدعوين بإبلاغ السلطات أن الأب قتل ابنه بأن أغطسه في برميل نبيذ.. وبدأ التحقيق فعلا، ولكن الوزير تدخل واستطاع أن يوقف استمرار التحقيق.. إن الحادث وقع قضاء وقدرا نتيجة محاولة الأب تسميد ابنه بالقوة بالطريقة التي تعلمها في إيطاليا.. وكان الوزير سعيدا فعلا بمحمود الذي وصل من اعتزازه بقوته إلى حد أن يحاول أن يكون ابنه أقوى منه.. ولكن محمود لم يعد يحس بأنه قوي.. لم يخطر على باله أبدا قيمة القوة.. إنه يحس بأنه قتل ابنه فعلا.. قتله باسم توفير القوة.. إنه لم يعد يريد أي قوة.. وأصبح يبدو دائما مذهولا منطويا على نفسه، يسير كأنه يزحف بقدميه، ويتكلم نادرا كأنه يتنهد.. إنه يجلس على مكتبه منهارا.. ويسير بصحبة الوزير وهو ساهم لا يدري أين تقوده قدماه، ولا يرى أحدا ممن يلتفون حول الوزير.. والوزير نفسه يلاحظ ذلك ويعذره منتظرا أن يفيق من صدمة قتل ابنه..
وكان الرجل الذي يسمى خليل يتردد بين يوم وآخر على الوزارة مصرا على مقابلة الوزير.. وكان ينتظر يوما لا يكون فيه محمود موجودا على مكتبه حتى يحاول مع غيره.. ولكنه كان يرى محمود دائما على مكتبه.. ولكنه بدأ يلاحظ أن محمود قد تغير.. إنه ليس في عنفوانه.. ولا في مظاهر جبروته الذي عرف به.. فتجرأ  وأقدم عليه ووقف أمامه يطلب مقابلة الوزير.. وأجابه محمود في تخاذل كأنه يرجوه ويستعطفه:
-       صدقني.. كنت أتمنى لك أن  تقابل الوزير ولكن مستحيل..
وصرخ خليل في وجهه بعد أن تأكد من انهياره:
-       المستحيل هو أن يحرم الشعب من لقاء وزرائه.. إني صاحب مطلب شعبي..
وقال محمود في تخاذل:
-       آسف.. لا أستطيع..
ومد خليل ذراعه وأمسك بعنق محمود صائحا:
-       ولكني أستطيع أن أنزعك من مكتبك لتفتح لي باب الوزير..
وقال محمود وهو مستسلم له كأنه يترك عنقه له ليخنقه:
-       الله يسامحك.. حاضر كما تريد..
وقام محمود وصحب خليل ودخل به غرفة الوزير قائلا:
-       هذا الرجل يلح منذ عام في لقاء جنابك..
ونظر الوزير نظرة هلع إلى خليل.. وهم محمود أن يترك الرجل معه ويخرج من الغرفة.. فصاح به الوزير:
-       لن تخرج.. كن معنا..
ثم قال الوزير لخليل:
-       إني لم أنس ما تريد.. وسأحققه لك حالا فورا..
وكتب الوزير ورقة أعطاها لخليل وخرج مع محمود..
وفي نفس اليوم طرد الوزير من مكتبه محمود ونقله إلى بدروم الأرشيف.. ومحمود لا يحس بما يجري له.. لا يحس بنفسه سواء كان في مكتب الوزير أو في بدروم الأرشيف.. إنه يعيش مذهولا كأنه فاقد الوعي.. إلى أن بدأت خواطره تعصف به.. لقد قتل ابنه.. كيف قتله؟ لقد قتله بإغراقه في النبيذ..ولن يستطيع أن يثأر لابنه إلا إذا قتل نفسه كما قتله.. ويقتل نفسه أيضا غارقا في النبيذ.. وجاء ببرميل النبيذ.. وخلع ثيابه وألقى برأسه داخل البرميل.. لكن طبيعته تقاوم الموت.. ورفع رأسه وهو يصيح بكلمات مترنحة سكرانه:
-       يا رب.. ارحمني واقتلني..
واستجمع كل ما تبقى له من قوة وعاد وألقى برأسه في البرميل.. ولكنه لم يغطسها في النبيذ بل أخذ يشرب منه.. حتى أصبح مخمورا وفي منتهى السكر..
ومن يومها ومحمود لا يكف عن شرب الخمر منذ يصحو إلى أن تخمده الخمر.. ولم يعد يشترط ألا يشرب إلانبيذ روما.. إنه يشرب أي خمر.. وزملاؤه لا يرونه إلا وهو يتطوح.. وينهالون عليه بالمشاغبات والصفعات.. ويصفعون البطل القوي.. والضحكات البلهاء تتساقط من شفتيه..

1 comments:

إرسال تعليق