القن
(من مجلة البيان الكويتية،
العدد:481 ص: 95-98 أغسطس 2010م)
بقلم: هيام المفلح (
قاصة من السعودية)
بعد أن خرجت
أمي من المستشفى، تحولت حياتنا إلى ما يشبه حياة الدجاج الذي نربيه فوق بيوتنا!
في كل وقت...
صار صوت أبي يرتفع بالسب والشتائم. يقذف أمي بكلمات لا أفهم بعضها، ويضرب جسدها
بيده ورجله... لا فرق لديه أين تقع ضرباته، ولا يبالي بوجود ضيوف بيتنا.
ما استغربته
أكثر... هو موقف أمي حيال كل هذا! كانت، قبل أن تدخل المستشفى، ترد على أبي حين
يرفع صوته غاضبا، وفي أحيان أخرى تسارع إلى غرفتها، وتحزم حقيبتها، ثم تمسك بيدي،
وتخرج إلى بيت جدي حيث نبقى هناك أياما، حتى يأتي أبي فيعيدنا إلى بيتنا ثانية.
أمي شابة
جميلة طالما تباهيت بها أمام زميلاتي... بيني وبينها حب كبير، فأنا ابنتها الوحيدة
منذ خمسة أعوام... وهذا الحب جعلني أفرح كثيرا، بيني وبين نفسي، حين ولدت أمي ولدا
ميتا قبل سنتين، وأسقطت بعده بسنة جنينها الآخر.
وأبي كان دائم
السفر... يحبني وأحبه أيضا ولكن ليس كأمي، لأنه كان يصر، في الآونة الأخيرة، على
أن تنجب له أمي ولدا آخر.. سمعته يقول لها ذلك.. ومن يومها وأنا ألوذ بحضن أمي
دوما حتى لا أترك مكانا لولد جديد!
والآن.. وبعد
أن خرجت أمي من المستشفى.. أصبحت هي التي تجلسني دائما في حضنها وتضمني إلى صدرها
بقوة ثم تبكي وتبكي!
البكاء أضحى
ردها الوحيد على شتائم أبي وضرباته المبرحة لها. ما عادت تفعل مثل تلك الدجاجة
التي نقرها الديك الشرس فأوسعته ضربا بجناحينها، ونهرا بأصواتها!. والبارحة بكت
حتى وقعت مريضة لأنه قال لها، بغضب وعصبية، كلاما لم أفهمه: فماذا يعني أنه “لن
يرضى بالعيش مع امرأة أكل المرض رحمها”؟ وماذا يعني أن “امرأة بلا رحم كالشجرة اليابسة
تستحق قطعها”؟ كل ما فهمته أن أبي بات يكره أمي لأن “لا رحم لديها الآن”!
كم تمنيت أن يكون
لديّ مال كثير لأشتري لأمي "رحما" جديدا ليحبها أبي، ويمتنع عن ضربها
وتعذيبها مرة أخرى!
وعندما جاء
أخوالي وخالاتي لأخذنا إلى بيت جدي، بناء على رغبة أبي، لم يستمع أبي إلى تسولاتها
التي كانت تطلب منه أن يتركها تبقي في بيته خادمة له ولزوجته الجديدة. انفلتُ،
لحظتها، من بين الجميع، وصعدت إلى السطح باكية.
كان الديك،
كعادته، شرسا وغاضبا، صوته عال، ومنقاره دائم الحركة، ينهش في أجساد دجاجاته
الأربع بدون رحمة، والفراخ الصغيرة تهرب من بين أرجلهم المتقافزة من مكان إلى
مكان!
شتمته وأنا
أفتح باب القفص الكبير... أدخلت يديّ ورأسي داخل القفص... وأمسكت الديك بأصابع
متوحشة.. طويلة الأظفار... صرخت فيه والدموع تغرق وجنتيّ: لماذا؟... لماذا؟...
لماذا؟... ورأيت نفسي في أحضان خالتي، وأصابعي وثيابي ملوثة بالدم والريش، والديك
أمامي ينتفض وينزف.. كيديّ!
هذه المرة...
طال مكوثنا في بيت جدي، ولم يأت أبي ليأخذنا إلى البيت كالعادة! زاد التصاق أمي بي،
وكانت ابتسامتها تشرق برؤيتي رغم الحزن والدموع.. وأشياء أخرى، وحاولت أمي شرحها
لي، وحاولتُ فهمها، كلما تقدمت بي السن.
اشتقت لأبي
جدا... ويشتد شوقي له كلما رأيت أولاد أخوالي يتواثبون حول آبائهم، ويتسابقون إلى
أحضانهم، بينما أنا وحيدة في حضن أمي... بلا أب!
وكنت أسأل
نفسي ذلك السؤال الذي رددته بحزن عندما فتحت قطعة حلوى أعطتني إياها أمي كما أعطت
لبقية الصغار لكن قطعتي أنا، حين فتحتها، رأيت بداخلها دودة بيضاء تتلوى... نظرت
إليها وإلى الباقين لأرى هل وجدوا في حلواهم ما وجدته، فإذا جميعهم يأكلون بتلذذ
شديد، وأنا الوحيدة التي استقرت في حصتها دودة مقرفة بيضاء، وعلى لساني ذلك السؤال
الحزين “لماذا أنا"؟!
بالأمس... سمعت
الكبار يتهامسون بأن أبي قد انتقل إلى مدينة أخرى، وأنه تزوج هناك ورزق بأولاد
ثلاثة.. وبصوت خفيض جدا لم تسمعه أمي التي كانت في الغرفة الثانية سمعتهم، خلسة،
يعلنون خوفهم من أن يفكر في ضم “الرابعة” إليه! لم أفهم!... وتتالت أحداث بعدها لم
أفهمها أيضا!
بدأت حالة أمي
تتدهور يوما بعد يوم... خوفها الشديد عليّ أزعجني... فما عادت تسمح لي باللعب مع
الباقين في الملاهي التي بجوار البيت... حتى إنها جعلتني أمتنع عن الذهاب إلى
مدرستي عدة أيام مع أنني لست مريضة!
وأصبحت ذات
يوم... كان صباحا حارا... لشمسه مخالب ومنقار... كالديك! يومها... أمرتني أمي
بالبقاء في سريري، وعدم التحرك منه وأغلقت الباب عليّ.
انكمشت على
نفسي في سريري وأنا أسمع أصواتهم تتعارك في الخارج كأصوات بيت الدجاج ذاك! تبينت
من بين أصواتهم صوت أبي الذي أحبه.. هرولت إليه بكل سعادة وأنا أناديه... لكن
الباب الأسود المغلق وقف بيني وبينه. وبكيت وأنا أقرعه بكفّي.. وأناديه.. وما من
مجيب!
مضى وقت قبل
أن تأتي أمي إليّ... ولم أر وجهها الذي أعرفه! كانت امرأة خائفة هائجة... أقفلت
الباب وراءها بسرعة وهجمت عليّ... وضعتني في حضنها وربطتني بحبل حول خصرها ثم
تقرفصت على الأرض بإصرار... وأحاطتني ذراعيها برعب! عرقها الذي تصبب في غزارة
أغرقني برائحته ورطوبته.
لم تفلح
الطرقات المتوالية على الباب في زحزحة أمي من مكانها، ولم يفلح كسرهم للباب في فك
قيدي.. وما أقنعت توسلات أخوالي وخالاتي، المخنوقة بالعبرات، أمي بشيء!
وكان عناد أمي
أقوى من صوت أبي المجلجل في الخارج، وأقوى من الشرطي الذي جاء به لانتزاعي من
حضنها تنفيذا لأمر المحكمة.
وعندما عجز
الكلام... بدأت لغة الحركة.. امتدت الأيدي بأصابعها الحازمة تفك تلاحمنا، أنا وأمي،
وشكلت الأجساد المحيطة بنا خيمة مظلمة منعت عنا الهواء.
تعثر صراخي
الممزوج بصراخ أمي ودموعها، حتى ضاع في صخب ضجيجهم.. ولا هواء!
فجأة... سكتت
أنفاس أمي اللاهثة بحرقة في أذني.. وأرخت ذراعاها اللتان كانتا تعتصراني... أدركت
حينها أن قوتهم غلبتها.
تلقفتني
أذرعهم... ورمتني بين ذراعي والدي! احتضنته بكل خوفي وحزني ولهفتي... وعندما استدار
خارجا بي من البوابة الكبيرة، صرخت والتفت إلى الوراء: أمي.
نقرتني الشمس
بمنقارها الساخن... وصوت ديك شرس أمرني بالسكوت، وأنا أرتجف فوق ساقين طويلتين
تبتعدان بي!
0 comments:
إرسال تعليق