السبت، 25 يناير 2014

نحو أفق جديد لجبران خليل جران

نحو أفق جديد
(‘العواصف’ ص:390-392)
ماذا تريدون منّي يا بني أمّي؟
أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصورًا مزخرفة بالكلام وهياكل مسقوفة بالأحلام، أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون والجبناء وأنقض ما رفعه المراؤون والخبثاء؟
ماذا تريدون أن أفعل يا بني أمي؟
أأهدل كالحمائم لأرضيكم أم أزمجر كالأسد لأرضي نفسي؟
قد غنّيت لكم فلم ترقصوا ونُحتُ أمامكم فلم تبكوا، فهل تريدون أن أترنم وأنوح في وقت واحد؟
نفوسكم تتلوّى جوعًا وخبز المعرفة أوفر من حجارة الأودية، ولكنكم لا تأكلون وقلوبكم تختلج عطشا ومناهل الحياة تجري كالسّواقي حول منازلكم فلماذا لا تشربون؟
قلت لكم تعالَوا نصعد إلى قمة الجبل لأريكم ممالك العالم، فأجبتم قائلين: في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا وجدودنا وفي ظلاله ماتوا  وفي كهوفه قُبِروا فكيف نتركه ونذهب إلى حيث لم يذهبوا؟
قلت لكم هلموا نذهب إلى السهول لأريكم مناجم الذهب  وكنوز الأرض، فأجبتم قائلين: في السّهول يربض اللصوص وقطاع الطرق.
قلت لكم: تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته فأجبتم قائلين: ضجيج اللجة يخيف أرواحنا وهول الأعماق يميت أجسادنا.
كنت أبكي على ذلّكم وانكساركم وكانت دموعي تجري صافية كالبلَّور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة بل أزالت الغشاء عن عينيّ، ولا بلّلت صدوركم المتحجّرة بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة ولا تأتي بعدها.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أريكم أشباح وجوهكم في أحواض المياه الهادئة؟ تعالوا إذا وانظروا ما أقبح ملامحكم.
هلمّوا وتأملوا فقد جعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد، وعرك السهر عيونكم فأصبحت كالحفر المظلمة، ولمست الجبانة خدودكم فبانت كالخرق المتجعّدة، وقبّل الموت شفاهكم فأمست صفراء كأوراق الخريف.
ماذا تطلبون مني يا بني أمي؟ بل ماذا تطلبون من الحياة والحياة لم تعُد تحسبكم من أبنائها؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهّان والمشَعوِذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين، فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟.
إنما الحياة عزم يرافق الشبيبة، وجدّ يلاحق الكهولة، وحكمة تتبع الشيخوخة، أمّا أنتم يا بني أمّي فقد وُلدتم شيوخًا عاجزين ثم صغرت رؤوسكم وتقلّصت جلودكم فصرتم أطفالاً تتقبّلون على الأوحال وتترامون بالحجارة.
إنّما الإنسانية نهر بلّوري يسير متدفقًا مترنمًا حاملاً أسرار الجبال إلى أعماق البحر. أمّا أنتم يا بني أمّي فمستنقعات خبيثة تدبّ الحشرات في أعماقها وتتلوّى الأفاعي على جنباتها.
إنما النفس شعلة زرقاء متقدة مقدسة تلتهم الهشيم وتنمو بالأنواء وتنير أوجه الآلهة – أما نفوسكم يا بني أمي فرماد تذريه الرياح على الثلوج وتبدّده العواصف في الأودية.
أنا أكرهكم يا بني أمّي لأنكم تكرهون المجد والعظمة.
أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم.

0 comments:

إرسال تعليق