ليلة الزفاف
(من مجموعته القصصية ‘مدرسة
المغفلين’)
انطلقت آخر
زغاريد ذلك القران الميمون في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وزف العروسان إلى
حجرتهما بعد أن رشا بالملح من عيون الحساد. وأغلق عليهما الباب وصارا وحدهما
أخيرا.. وقد اجتازا الأعتاب نحو تلك اللحظة التي لم تخلق مثل كل اللحظات.. تلك
اللحظة التي تشع كاللؤلؤة البهيجة في تاج الزمان.. زمان كل فرد على هذه الأرض..من
الملوك إلى الصعاليك. تلك اللحظة التي بذل فيها ما بذل. ومن أجلها احتشد المعارف
والأصدقاء، واحتفل الأهل والأقرباء، ونصبت الموائد، وقرعت الكئوس، ولعب الفرح
والأنس بالرؤوس، وحمى الرقص وارتفع الغناء، وسبح الحاضرون وعاموا في أويقات من
الهناء.. جاءت تلك اللحظة.. قمة السهرة، وقبة الحفلة، ومحراب الليلة... لحظة الخلوة
بين العروسين. ويا لها من لحظة!.. كل زوج ولا شك يذكر حيرته وهو يبحث في رأسه عن
أول كلمة يخاطب بها عروسه وقد صارا على انفراد. أيبدأ بكلمة جدية أم كلمة فكهة..
أم كلمة عاطفية؟. وكل زوجة تذكر ولا ريب إحساسها وهي تنتظر الكلمة الأولى من فم
عريسها!
أما عروس الليلة
فلم يبد عليها أنها تنتظر شيئا. فما كاد باب حجرة العرس يغلق، حتى تركت عريسها
واتجهت إلى منضدة الزينة، وجلست ووضعت رأسها الجميل في كفيها. ورأى العريس منها
ذلك، فأقبل عليها يقول:
-
أمتعبة أنت يا
عزيزتي؟ صخْب العرس أزعجك فيما أرى!
فلم
تجب، ولم ير العريس وجهها الذي تخفيه بيديها، ولكنه لم يلبث أن رأى قطرة دمع تفر
من بين أصابعها، وتسقط على ثوب عرسها الأبيض. فقال بصوت يتهدج حنانا:
-
أتبكين يا
سونة؟!
فلم
يسمع منها غير نشيج خافت، فتألم لها، إنه يعلم السبب، إن سونة وحيدة أمها. وقد
فقدت أباها منذ بضعة أعوام. فالافتراق عن هذه الأم العزيزة التي كانت لها كل شيء
ليس بالأمر اليسير. ولعل هذه الفكرة هي التي كانت تخيم عليها طول الحفلة.. لقد
كانت مطرقة واجمة ذاهلة، قليلة الكلام نادرة الابتسام فحدب عليها، وألصق خده
برأسها، وقال لها:
_ لا تبكي يا
عزيزتي سونة. سأكون لك أما وأبا وزوجا وأخا.. ولن أجعلك تشعرين أبدا أنك فقدت شيئا
أو فارقت أحدا..
فأبعدت رأسها
عن خدّه، وأرادت أن تتكلم، ولكن الدموع غلبتها.. فبادر هو يقول لها:
_ لا تتكلمي!
إني أعرف ما تريدين أن تقولي. أطلقي دموعك ولا تكتميها، هذا أمر طبيعي، لستُ أخشى
إلا على عينيك الجميلتين.. ولكن البكاء في مثل هذه الحال يجلو النفس، وعما قليل
تشعرين بالراحة، ويشرق وجهك، كأنه شمس تسطع بعد مطر خفيف لطيف..
فاهتزّت كأن
في جوفها معركة.. ثم تشجعت وقالت والدمع في عينيها:
_ أريد أن
أصارحك بشيء.. هل تسمح لي؟
_ بالطبع يا
سونتي.. بالطبع. صارحني بكل ما في نفسك، ألسنا الآن زوجين؟ لا ينبغي أن يخفي أحدنا
عن شريكه شيئا..
_ نعم، من
واجبي أن أقول لك.. وأرجو ألا تتألم أو تغضب: إني أحب شخصا آخر..
لفظتها بسرعة
وقوة، ثم استخرطت في البكاء. ودوّت هذه العبارة في أذن العريس كانها قذيفة،
وأذهلته المفاجأة، فلم يحس ألما ولا غضبا.. بل لم يشعر بنفسه ولا بما حوله.. ولا
بالوقت الذي مرّ قبل أن يتماسك ويثوب إلى رشده، ويعي مدلول ما سمع.. وينظر فيما
ينبغي أن يصنع..
وكان رجلا
رزينا عاقلا في نحو السادسة والثلاثين، علّمتْه تبعات منصبه المحترم أن يزن
الأمور. فسرعان ما ضبط نفسه، وقال بهدوء ممزوج بالمرارة والعتب المهذب:
- ألا ترين أن هذا التصريح جاء متأخرا بعض الوقت،
هل كان لديك مانع من الإفضاء به إلي في أيام الخطبة أو قبل إبرام العقد على الأقــــل؟
كان يجب أن يتم
هذا القران إرضاء لأمي المسكينة.كنت أراها أتعس مخلوقات الأرض كلما حاولت إقناعها بفسخ
خطبتنا. لقد كان أملها الوحيد وحلمها الدائم أن تراني زوجة رجل مثلك. ولقد خانتني شجاعتي
فلم أجرؤ على صدمها في آمالها. وهي مسنة ضعيفة مريضة. إنّ الله يعلم كم جاهدتُ كي أكتم
عاطفتي وأخنق حبي وكم أردت آخر الأمر أن أفهم نفسي أن الماضي قد انتهى بالزواج وقد
خيل إلي أن قلبي قد استجاب لنداء العقل لكني الليلة وقد تم الأمر وأمسى كل شيء حقيقة.
سمعت صرخات قلبي تهزني هزا وتكاد تهدم كياني فأيقنت أني لن أستطيع المضي في خداع نفسي.
ولا يليق بي المضي في خداعك..
كانت تقول ذلك
وهي تشهق ببكائها وتنشج...وأطرق العريس وفكر فيما أفضت به مليا...ثم قال:
- تصرف سليم ولا غبار عليه. ثقي أني من جانبي
على أتم استعداد لمعاونتك فيما يتجه إليه عزمك. الحق معك. لا يجب أن تخدعي نفسك استمعي
إلى صوت قلبك. ومادام حبك صادقا. فليس لأحد عليك سبيل. إني أضع حريتك بين يديك منذ
الآن وأضع نفسي في خدمتك فلنـــتـدبر الأمر معا....كيف نخرج من هذا الموقف أولا....هبي
أني طلقتك الليلة ما الذي سيحصل، ستكون فضيحة لن أرضاها لك ومصدرا للأقاويل والشائعات
حولك لن ينضب..ثم هي صدمة قاسية لوالدتك، وأنت التي أشفقتِ عليها من صدمة أخف وأهون،
إذن ماذا نصنع؟ فكري معي قليلا...
- أصبت.. إن طلاقي الليلة فضيحة..
- فلنبحث عن حل غير هذا.. ابحثي جيدا...
-هأنذي أبحث...
وجلس كل منهما
يفكر وقد جعل رأسه في كفيه...وأخيرا نهض العريس صائحا:
- وجدت
حلا ربما كان فيه الخير ولكنه يتطلب منك بعض الصبر ومني بعض القدرة على التمثيل...ذلك
أن أطلقك بعد شهر أو شهرين وفي هذه الفترة أتظاهر أمام الناس وعلى الأخص أمام والدتك
أني فظ الخلق شرس الطباع وأني أسيء معاملتك، بهذا نعدها إعدادا رفيقا لتحمل يمين الطلاق..
بل قد ينفد صبرها هي فتحثــك قبل انقضاء المدة على طلب الانفصال فإذا تم ذلك رأت بعدئذ
حلمها ومحط أملها في ذلك الذي اختاره قلبك..ما رأيك في هذا الحل؟
- مدهش!
لفظتها وهي تريد
أن تكفكف دمعها وتنـف فلم تجد غير طرف ثوبها..فأسرع العريس قائلا قبل أن تتمخط فيه:
- انتظري
...انتظري..خذي منديلي ولا توسخي ثوب عرسك حافظي عليه للقران الآخر!
فتناولت منديله
وهي تقول:
- إنك
رجل نبيل... إني آسفة، ما ذنبك أنت حتى أعكر عليك صفو هذه الليلة؟ وماذا جنيت أنت حتى
تفجع هكذا في عروسك؟ ولعلك علقت آمالا كبارا على هذا الزواج...
فأطرق لحظة. ثم
قال كالمخاطب نفسه:
- لا
تذكريني...أقصد.. لا تعلقي على هذا الأمر أهمية ..
- إني
متألمة لك...
- لا
تتألمي لي، إني بخير، إنك على كل حال لست مسؤولة عما وقع لي، حظي هكذا..حقيقة لقد وضعت
في هذا الزواج أملي لأني كنت دائما رجلا شحيحا بعواطفه ضنينا بفؤاده..استغرقتني حياة
العمل فلم أعرف من حياة اللهو إلا القليل، ولم أعط امرأة من نفسي شيئا نفيسا...ادخرت
كل ما في قلبي من حب للزوجة التي هي نصيبي...كنت أتخيلها في أوقات فراغي وهي إلى جانبي
وأتخيل ما أناجيها به من حدب وعطف وحب وحنان، كدسته كدنانير البخيل على مر الأعوام
من أجلها...ولكن القدر أراد أن يصيبني فيما كنزت كما يصيب أحيانا البخلاء فيما يكنزون...
لأنه يحلو له السخرية ممن يركزون همهم في هدف... فيتربص بهم حتى يقتربوا منه، فيعبث
به بطرف أصبعه، فإذا جهودهم هباء...
- كل
ذلك بسببي.. أنا مجرمة..
- لا
...مطلقا... لا شأن لك بالأمر.. إن مثلي مثل ذلك الرجل الذي ظل يجمع المال ويدخره ليشتري
به عينا، فلما تم له ذلك واشترى العين وجدها محجوزا عليها أو مرهونة لآخر رهنا عقاريا
ممتازا لا فكاك منه.. فما ذنب العين في هذه الحال... الذنب ذنب الادخار.. والبخل..
وليتني جعلت شعاري: ‘أنفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب’
- إن كلامك يحز في نفسي كسكين.. لست أدري ماذا
في إمكاني أن أصنع لك.. من يدري؟ ربما عوضك القدر عني خيرا.. وجاءك الغيب بزوجة أحلامك..
إني لم أكن بك جديرة..
- هذا
لطف منك يا سو.. يا سنية... سنية هانم... اعذريني.. لم أعد أدري كيف أناديك...
- عجبا..نادني
كما كنت تناديني منذ لحظة..
- أمام والدتك بالطبع...أما ونحن وحدنا....فلا
حق لي..
- لماذا؟
- لم
يعد لي حق تدليلك...أنت منذ الآن -كما قلت لك - أجنبية عني ولا أدري ماذا نصنع الآن
ووالدتك في البيت ولا بد لنا من المكث في حجرة واحدة... اسمعي: أنت لك السرير وأنا
لي الأرض... ها هنا بجوار الباب في ذلك الركن البعيد... هيا انهضي إلى فراشك.. أنت
في أشد الحاجة إلى الراحة الليلة بعد كل هذه الأحداث المثيرة لأعصابك..
- تنام على الارض...
_ لا
يوجد وضع آخر.
- هذا
صحيح مع الأسف ولكن سامحني.. أرجوك.. أهكذا أجعل ليلة عرسك على هذه الصورة غير البهيجة!
- ما
لها ليلة عرسي! إني راض بها.. هل يتاح لكل عريس مثلها؟ ثقي أنه سيظل لها دائما في نفسي
ذكرى عزيزة..
- إنك
تريد أن تنفي عني كل مسؤولية.. على كل حال الوقت الآن غير مناسب لمجادلتك.. فلأعد لك
مكانا مريحا لمبيتك.. فأنت الذي أنهكتك ولا شك هذه المفاجأة غير السارة... أرى فوق
السرير مرتبتين فلأفرش واحدة منهما على الأرض.. وليكن توزيع المكانين بيننا بالقرعة...ما
رأيك..؟
قال لها مبتسما:
_ موافق...إني مطمئن إلى سوء حظي...
ونهضت من فورها...ونهض
هو..فتعاونا على نقل إحدى حشيتي السرير إلى ركن من أركان الحجرة.. وأخذت هي في وضع
الوسائد وتهيئة الفراش الأرضي، حتى فرغت منه، فطلبت إليه عملة من ذات القرش واتفقا
على أن الذي يخرج له الوجه ذو الصورة يظفر بالسرير... ورمت بالقطعة النقدية في الفضاء
فإذا هي الظافرة.. فقال لها: ألم أقل لك إني أعرف بختي؟
-
إني أخطأت الرمي فلنعد القرعة من جديد..
_ لا.. لا.. من فضلك.. حافظي على مبدئك: الصدق
والصراحة وعدم الخداع. لقد كسبت أنت وخسرت أنا...فلا محل للمراوغة ولا لزوم للحمرأة!
فقبلت على مضض..
وخرج من الحجرة إلى أن خلعت ثيابها واندست في سريرها، فعاد وخلع ملابسه وأوى إلى فراشه..
ومدت ذراعها البضة المرمرية إلى زر المصباح بقربها وهي تقول مستاذنة:
_ هل
أطفىء النور؟
_ إذا
شئت.. وأتمنى لك نوما هنيئا. ومستقبلا سعيدا مع من اختاره قلبك... وإني واثق من أنك
أحسنت الاختيار...ولو انك لم تحدثيني عنه..
_ إنه ضابط...ملازم أول..
_ وشاب جميل بالطبع ويصغرني بعشر سنوات على الأقل
فلا جدوى في منافسة ..ولا أمل في مقاومة..
لفظها هامسا وهو
يخاطب نفسه فسألته:
_ ماذا
تقول؟
_ لا
شيء.. اطفئي النور.. تصبحي على خير..
مرت الأيام والزوج
يمثل الدور المتفق عليه خير تمثيل، ويشعر حماته برفق أنه ليس الزوج المثالي الذي كانت
تتمناه لوحيدتها.. غير أن المشكلة التي استعصت عليه هي مسألة الحجرة المشتركة.. إن
هذه الحال بينه وبين زوجته المزيفة لا يمكن أن تدوم على هذا الوضع.. إنه لا يستطيع
النوم وهي معه في غرفة واحدة هكذا، كأنهما
غريبان وبينهما حيوان شهوان، بالحرمان يزأر وبالرغبة يجأر.. إنه يحس كأن أنفاسها الحارة
تلفح وجهه.. كل حركة منها تطرد النعاس من أجفانه إذا سعلت نهض يجرد نفسه من غطائه ليدثرها
به.. وإذا نفذ شعاع القمر من النافذة، قام على أصابعه يتأمل وجهها البديع السابح في
ضوئه، ثم يسدل بعد ذلك الأستار، حتى لا يزعجها النور.. وإذا تقلبت على أحد جنبيها تقلب
هو أيضا.. وإذا نهضت بالليل لحاجة تصنع النوم العميق وكتم أنفاسه المضطربة حتى لاتعلم
أنه يقظان.. إنها فتنة دائمة نائمة فوق سرير.. ولكنها مستيقظة ثائرة ساهرة في جوفه..
كل شيء منها يقض مضجعه.. ويحطم أعصابه وإرادته ويجعله يضطرب في فراشه كأنه ريشة: رائحة
جسدها في أنفه، وتنهداتها اللطيفة في النوم، وشخيرها الخفيف الهامس المتقطع.. وطريقتها
العجيبة في نومها وهي منبطحة على وجهها، بشعرها المتدلي ونحرها العاري ووسادتها التي
تضغطها وتضمها في حضنها.. إنه لعذاب لا يستطيع أن يتحمله رجل من لحم ودم .. إنه تحمل
ذلك ليلة وليلتين وثلاثا وأربعا.. وكاد ينقضي الأسبوع .. ولكن المضي في ذلك لفوق الطاقة
والاحتمال ..كيف يصنع؟ والبيت ليس فيه للنوم غير المكتب أو البهو أو قاعة حجرتهما هذه
أو حجرة أخرى تشغلها حماته، أيبيت في قاعة الطعام؟ وما عسى أن يقول الخدم والحماة في
هذا التصرف من عريس؟ وحماته لن تفارقهما أبدا. إذ ليس لها غير بنتها ملاذا، لم ير إلا
أن يصبر صبرا جميلا.. وأن يسرع في إنهاء مهمته. وجعل يشتد يوما بعد يوم في إظهار غلظ
طباعه، وحماته تتغاضى حرصا على هناء ابنتها. وابنتها لم تكن متقنة لتمثيل دورها. فما
كان يبدو عليها غضب من طباع زوجها الموهومة. ذلك أنها كانت تعلم أنه إذا خلا بها في
الليل جعل يعتذر لها عن إساءات النهار. وانتهى بها الأمر أن صارت تسرّ لهذا اللون من
التمثيل كأنها طفلة وتكاد تضحك بدل أن تغضب.. وهو يغمزها بعينه، ويحثها على التظاهر
بالتقطيب.. بل كانت تغلط أحيانا وتدافع عنه أمام أمها أو الزائرين إذا وجه إلى طبعه
نقد.. فتفلت من بين شفتيها كلمة والله مظلوم!
إلى أن جاء يوم
خطر فيه للزوج خاطر وجد فيه العلاج لسهاد الليل. ذلك أن يلجأ إلى منزل صديق قديم عازب
يرتاح عنده وينام من العصر حتى المساء.. وأخبر حماته وزوجته أن أعمالا طرأت ترغمه على
هذه الغيبة.. وصار لا يعود إلا في العاشرة. وأحيانا في منتصف الليل. ولا ضير عليه في
ذلك فهذا يمكن أن يدخل ضمن برنامج التمثيل لدوره البغيض.
وعاد ذات ليلة
في الثانية صباحا.. فقد دعي إلى عيد ميلاد صديق، وكانت ليلة بريئة فيها طرب وغناء ومزاح.
فرأى لدهشته، زوجته تستقبله في سريرها مستيقظة مقطبة.. لا تقطيب تمثيل.. بل تقطيب غضب
حقيقي.. فلما أبدى لها العذر وبيّن لها السبب.. سكتت غير مقتنعة ولا راضية..
ومرّت أسابيع،
فإذا هي تطلب إليه يوما أن يذهب بها إلى السينما.. ورأى حماته تحبذ الفكرة قائلة
_ نعم
.. اذهب يا ابني بعروسك وتنزها معا كما يفعل كل العرسان!
فرأى من واجبه
أن يكون فظا سيّء الأدب فقال:
_ ما
كان ينقصني إلا هذا.. أنا أخرج مع ابنتك إلى السينما؟
_ وما
المانع؟ أليست ظريفة جميلة؟ إنها عروس تشرف أحسن عريس!
_ هذا
رأيك أنت وحدك..
_ عيب يا ابني.
_ على
كل حال، ليس عندي وقت أضيعه في نزهة بنتك.
وهنا احمر وجه
الزوجة غضبا وقالت:
_ وعندك
وقت تضيعه في السهر لما بعد منتصف الليل؟
_ هذا
شاني.
_ لن
أخرج معك في حياتي .. أبدا.. أبدا
وتركته وانصرفت
مسرعة إلى غرفتها.. وأطرقت الحماة أسفا وألما. أما هو فقد خرج إلى شأنه كما اعتاد أن
يصنع في كل يوم.. ولم يعلق بنفسه شيء مما حدث، كالممثل بعد تركه خشبة المسرح وقد ضرب
عليها وطعن وجرح..
وعاد في المساء
فوجد زوجته في سريرها ووجهها في وسادتها وقد بللتها بدموعها.. ولم تتحرك لدخوله.. وحسبها
هو نائمة لولا شهيق خافت ونشيج غير مرتفع نبهه.. فذهب إليها يقول:
_ مالك؟
مالك؟
فرفعت رأسها من
فوق الوسادة والتفتت إليه وخيوط العبرات تلمع على خدها.. ولم تجب.. فقال لها بحنان:
_ لم أركِ تبكين هكذا منذ زمن بعيد.. أهو أيضا؟
_ من
هو؟
_ الملازم..
_ أي ملازم؟ آه..
لفظتها مستدركة،
ثم قالت سريعا بنبرة عتاب مرة
_ لا..لا
تحاول التهرب من إساءتك.. بل إساءاتك المتكررة.. إني لا أستطيع أن أحتمل منك أكثر مما
تحملت.. هذا كثير علي.. ما من امرأة تتحمل هذا من رجل..
_ ماذا
فعلت يا ناس؟
_ أتنكر أنك آلمتني اليوم؟
_ تمثيل
طبعا...
_ هذه
حجة بالية.. إنك الآن صرت تجعل من هذا التمثيل ستارا تخفي وراءه كرهك لي..
_ سبحان
الله!
_ إنك الآن أمسيت تتحاشى رؤيتي أطول وقت مستطاع،
أتنكر ذلك؟ إنك تنصرف مبكرا في الصباح وأنا نائمة ولا تعود إلا في الغداء. ثم تخرج
فلا أراك إلافي العاشرة أو الحادية عشر أو منتصف الليل.. إني أسألك وأسأل نفسي: ماذا
في وجهي ينفرك أو في شخصي يبعدك؟
_ أهذا
معقول؟
_ أتقسم
أنك لا تنفر مني..
_ أقسم
أن هذا لم يخطر لي على بال.
_ لقد
كنت ظريفا معي في أول عهدنا.. شديد العطف علي .. كثير الحنان..
_ وأنا
الآن كما كنت..لم أتغير.
_ نعم..
أحيانا ونحن وحدنا في هذه الحجرة تتلطف معي، ولكنك أمام الناس ...
_ بالطبع..أمام
الناس يجب أن أكون غير لطيف.. طبقا للخطة..
_ أي
خطة.. أتعرف أنها أمست لعبة سمجة؟
_ ولكن!
هذا لابد منه..
_ كان
يسرني تمثيلك أول الأمر، ولكني الآن أراك جادا فيه ويبدو لي كأنه حقيقة.
_ كثرة
الممارسة تعلم الإتقان.
_ كنت
أفضل أن ألا تتقن هذا الدور.. حتى لا يخالجني شك.. كل كلمة منك الآن تطعنني حقيقة،
وتدميني.. يجب أن تحذر قليلا.. لم يعد الأمر في نظري تمثيلا.. لقد اختفت كل لفظة رقيقة..
لماذا لا يمتد إتقان دورك أيضا إلى ما يسرني؟
كنت تقول لي أمام والدتي يا سونة وأحيانا..يا سونتي ماذا حدث؟ لماذا لا أسمع
هذا النداء منك اليوم؟
_ حصل
تغيير في الخطة... نظرا لضيق الوقت.
_ ضيق
الوقت؟
_ ألا
تعرفين؟ نحن اليوم في آخر أسبوعنا السابع.. ولم يبق أمامنا سوى بضعة أيام لنفترق.
_ بهذه
السرعة؟ أواثق أنك لم تخطئ؟
_ اطمئني..
إني لا أغلط في الحساب.. وكل يوم يمر أُعده بكل دقة..
_ تُعدّ
الأيام لتعتق رقبتك..
_ أنا؟!
_ لم يبق إذن سوى بضعة أيام لنفترق.. ما أشد سرورك..
حدثني ماذا ستفعل بعد ذلك اليوم؟ وأين ستسكن؟
_ لا
أدري..لم أضع بعد برنامجا لحياتي المستقبلية..
_ كم
أتمنى أن تكون سعيدا في حياتك المستقبلية. ترى هل ستذكر بالخير أو بالشر أيامي معك؟
_ بالخير
طبعا.
_ وهل
سيكون شخصي عزيزا عليك؟
_ دائما..
_ أشكرك..
_ نامي
الآن هادئة البال.. لقد تأخرتِ عن موعد نومك.. وجذب الأغطية وغطاها جيدا ومست كفه وجهها
عفوا، فمرغت خدها في يده، كأنها قطة تتمسح
في صاحبها وأحس دفء ذلك الخد المخملي الاسيل، فسحب يده برفق.. وأطفأ النور في سكون،
وذهب إلى فراشه صامتا.
مرت الأيام الباقية
مرا سريعا، في جو عجيب رهيب. فهي قليلة الكلام نادرة الابتسام بادية الكآبة، وكأن على
وجهها من الحزن المكتوم سحابة.. تجيبه إذا تحدث بنظرة فيها أشياء يفهمها ويعلمها ويهتز
لها في أعماقه كأنها قصيدة بليغة.. وقد شقت عليه مهمّته فجعل يتحامل على نفسه ليستطيع
أن يمعن في إساءته لها أمام والدتها..
وتهيأت أخيرا الظروف
التي يستطاع فيها إصدار ذلك القرار الحاسم، دون أن تتأثر الأم كثيرا أو تخدش سمعة الزوجة..
جاءت الليلة الأخيرة..
فتعمد الزوج أن يعود في الهزيع الأخير من الليل حتى يكون التعب قد أرغمها على النوم،
ولكنه وجدها ساهرة مستلقية على ظهرها فوق سريرها وضوء المصباح على وجهها الشاحب، وكأنها
تشخص ببصرها إلى السقف... فقال لها:
_ عجبا!..
ألم تنعسي بعد؟
_ كنت أنتظر عودت..
_ لو
كنت أعلم ذلك لجئتك مبكرا..
_ إنك
تعلم ذلك..
_ ما
هذه اللهجة المكتئبة والوجه الحزين؟
_ ليس
هناك ما يدعوني إلى الفرح و الاغتباط..
_ على
النقيض.. كان يجب الليلة أن تكوني مسرورة مرحة... غدا ستكونين حرة وتستطيعين الزواج
ممن تحبين.
_ إنك
تعبر عن إحساسك أنت..
_ لا
شأن لك بإحساسي من فضلك، إني منذ خلوت بك في هذه الحجرة في ليلتنا الأولى وأنا لا أهتم
إلا بشعورك أنت وحدك و موقفك ومشكلتك وقد عاهدتك على ذلك. وأظن أني قد بررت بالوعد..
_ نعم..
لقد كنت رجلا شريفا..
_ الحمد
لله.
ووقع بينهما صمت
عميق.. واضطربت في شفتيها كلمات لم تجرؤ على إخراجها.. وأخيرا تشجعتْ وقالت:
_ إذن
أزفت الساعة..
_ أعتقد
ذلك..
_ هل..
هل تحب أن تعرف شعوري الآن .. أو ترى من مصلحتك أن تتجاهله؟ ثق أنه يشق على نفسي إحراجك..
أظن من الخير لك أن أسحب كلامي ولا أسألك شيئا.. وليكن ما في قلبي مكتوما، ولا يجب
أن أطمع في نبلك أكثر من ذلك..
_ أفصحي
وكوني صريحة دائما..
_ إذا طلقتني فإني أموت.
قالتها سريعا،
وأخفت وجهها في كفيها.. ولم يكن في صدقها خلجة شك.. وكان صوتها صوت الصدق نفسه لو أنه
أعطي لسانا. فجلس زوجها على حافة سريرها، وأمسك بيدها وقال:
_ اسمعي
يا.. سنية.. من الصعب علي أن أنسى أنك أحببت شخصا آخر.. ذلك الحب الذي رأيت بعيني آثاره
في وجهك ليلة عرسي..
_ أعلم أنك لن تغفر لي ذلك.. وأحب أن تعاقبني
العقاب الذي تراه، ولكني أرجوك أن تصدقني إذا قلت لك إن عواطفي نحو ذلك الشخص كانت
عواطف طفلة لم تعرف بعد ما هو الحب!
إني
لا أكذبك مطلقا.. غير أني واثق أنك تقديرين موقفي..
_ نعم،
أقدر موقفك.. وأدرك ما يجول بخاطرك.. وأعرف السؤال الذي يمنعك أدبك من أن تسألني إياه.
ولكن أقسم لك أنه لم تكن بيني وبين ذلك الشخص علاقة تخجل أو صلة تشين.. كل ما في الأمر
أنه كان جارنا يوم كنا نقطن في حي العباسية
وكنت ككل فتاة يبهرها ذلك الزي العسكري والقوام الممشوق، وكان يحيّيني وأحيّيه كلما
تقابلنا في الطريق، وكان يحادثني في التليفون ولكني لم أخرج معه قط.. ولم نجتمع على
انفراد.. أؤكّد لك ذلك وأحلف بكل يمين، وسيأتي الوقت الذي تتحقق من صدق قولي..
_ إني
أرى الصدق في عينيك.. وهذا يكفيني.. ولكني أخاف من أمر آخر ....حقيقة شعورك نحوي..
هل أنت واثقة؟
_ كل
الثقة..
_ كيف
تقطعين بذلك؟
_ إنك ترتاب،
لأنك لا تعرف الحب، ولكني أخبرك ما هو.. إنه ليس في تلك البهرة العاجلة التي تخطف
أبصارنا، ولا الهزة المفاجئة التي ترج قلوبنا.. ولكنه شيء يتكون على مهل كالجنين.
إنه ينسج فتلة فتلة، ويربط عقدة عقدة، كشغل ’التريكو‘.. هكذا يتوثق الرباط بين
قلبين.. مهما تشك في قولي.. فإني لن أستطيع التخلي أبدا عنك.. إنك ضروري لي..بكل
حسناتك وسيئاتك.. إنك لازم لي، بمجرد وجودك في هذه الحجرة.. أسمع سعالك، ويؤرقني
غيابك.. وتسرني عودتك، ولو بعد منتصف الليل، ويضحكني بحثك في الصباح عن جواربك تحت
السجاجيد وعن حذائك تحت الأمتعة، ووجهك الملطخ بالصابون وأنت تحلق.. وجرحك لوجهك
بالموسى، ونسيانك منديلك قبل خروجك.. واعتمادك عليّ لأذكرك بمحفظتك الملقاة على
منضدتي.. وابتسامتك الساذجة اللذيذة، وأنا أتمطى في الصباح وأتثاءب، وغضبك المفتعل
وصياحك التمثيلي.. أمام والدتي.. وكلامك لي عن عملك كأني أفهم دقائقه. ثم تذكرك
فجأة أني لست حقيقة لك فتبدي معي التكلف.. ثم تنسى فتتبسط وتدللني وتلاطفني..
وتطري ثوبي الجديد، ثم عاداتك في الطعام عرفتها وتعلمتها.. فالخبز يجب أن يسخن
ويحمر، والأرز يؤكل مع الخضر.. حتى نومك.. عرفت في أي ساعة من الليل تكون على جنبك
الأيسر.. كيف تريد أن أتخلى عن كل هذا؟ تلك تفاهات صغيرة، ولكنها هي الحلقات الدقيقة
الوثيقة في ’تريكو‘ الحب الزوجي..
_ ’تريكو‘! يا
له من تعبير! لا تنس الإبرة الطويلة من فضلك! إنها خطرة، وهي في يدك أنت!
فضحكت ضحكة
رقيقة.. ثم قالت بنبرة جد:
_ لا تخش شيئا
مني أبدا..
فأطرق مليّا..
ثم رفع رأسه وقال:
_ سونه.. دعي
لي وقتا للتفكير!
_ لم أسمع منك
لفظ ’سونه‘ منذ دهور! لم كل هذا الخوف مني؟
_ ليس منك.
ولكن على كنوزي. كنوز البخيل التي أدخرها في قلبه.. نامي يا سونه الآن.. وفي
الصباح نفكر وقد يأتي الفرج.. وغطاها كما اعتاد أن يفعل، وأطفأ النور وذهب إلى
فراشه الأرضي في ركن الحجرة..
ولم يكد يأوى
إليه، ويسحب غطاءه عليه، حتى سمع صوت سونة تثب من سريرها.. وإذا هي قد دلفت إلى
فراشه، واندست تحت الغطاء إلى جواره والتصقت به والتحمت بجسده وهي تقول:
_ أنت زوجي
أمام الله والناس وقلبي، ولن تفلت من بين ذراعي أبدا. وطوقته وضمته.. وإذا هو يجد
نفسه في مكان الوسادة التي اعتادت أن تحتضنها ليلا..
وكانت تلك هي
ليلة عرسها، ولعلها أول مرة في تاريخ الزواج يهجر فيها العروسان سرير الزفاف،
ليفترشا الأرض متعانقين...
0 comments:
إرسال تعليق