في الرفيق الأعلى
بقلم: محمد علي الوافي ـ الباحث/ مركز الدراسات
العربية والإفريقية،
جامعة جوهرلال نهروـ نيودلهي
رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذي الحجة, فأقام بالمدينة بقيته والمحرم
وصفرًا، من العام العاشر, فبدأ بتجهيز جيش أسامة، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن
حارثة, وأمره أن يتوجه نحو البلقان وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون
والأنصار، وكان منهم أبو بكر وعمر، وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلم
البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار, فلم يقبل
الرسول صلى الله عليه وسلم طعنهم في إمارة أسامة, فقال صلى الله عليه وسلم: “إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه,
وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ وإن ابنه هذا لمن
أحب الناس إليَّ بعده “([1])
وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
شكواه الذي قبضه الله فيه، وقد حدثت حوادث ما بين مرضه ووفاته منها:
النبي في البقيع وزيارته
قتلى أحد وصلاته عليهم:
عن أبي مويهبة
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من
جوف الليل فقال: “يا أبا مويهبة, إني قد
أمرت أن أستغفر لأهل البقيع, فانطلق معي “، فانطلقت معه, فلما وقف بين أظهرهم قال:
“السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم
ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها
أولها، الآخرة شر من الأولى “([2])
ثم أقبل عليَّ فقال: “يا أبا مويهبة، إني
قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي
والجنة “ قال: فقلت: بأبي أنت وأمي, خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة،
قال: “لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت
لقاء ربي والجنة “, ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف, فبدأ برسول الله صلى الله
عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه.
ومن حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء
والأموات، ثم طلع المنبر فقال: “إني بين
أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي
هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا, ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها “ فقال
عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم([3]).
استئذانه صلى الله عليه وسلم أن يمرَّض في بيت عائشة رضي
الله عنها:
قالت عائشة رضي
الله عنها: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه, استأذن أزواجه في أن
يمرَّض في بيتي, فأذن له, فخرج وهو بين رجلين، تخط رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل
آخر([4]),
ولما دخل بيتي اشتد وجعه، قال: “أهريقوا
عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن([5]),
لعلي أعهد إلى الناس “ فأجلسناه في مخضب([6])
لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، ثم
خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم([7])
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله
عليه وسلم, وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله, إنك لتوعك وعكا شديدًا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أجل: إني
أوعك كما يوعك رجلان منكم “ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين, فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: “أجل “ ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: “ما من مسلم يصيبه أذى من
مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها “([8]).
ثالثًا: من وصايا رسول الله في أيامه الأخيرة:
-
وصيته صلى الله عليه وسلم بالأنصار:
مر العباس رضي الله عنه بقوم من الأنصار يبكون حين اشتد
برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه, فقال لهم: (ما يبكيكم؟) قالوا: ذكرنا مجلسنا
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل العباس عليه صلى الله عليه وسلم فأخبره
فعُصِّب بعصابة دسماء([9])
أو قال: بحاشية برد، وخرج وصعد المنبر -ولم يصعد بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: “أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي([10])
وعيبتي([11]),
وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم “([12]),
وفي الحديث شدة محبة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاؤهم لمرضه
وحرمانهم من مجلسه.
-
إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد:
لقد ازدادت شدة
المرض على رسول الله، بحيث كان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، ومع ذلك كله
أحب صلى الله عليه وسلم أن يفارق الدنيا وهو مطمئن على أمته أن تضل من بعده, فأراد
أن يكتب لهم كتابا مفصلا ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا, فلما اختلفوا عنده صلى الله
عليه وسلم عدل عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمور ثلاثة, ذكر الراوي منها اثنين:
* “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب “.
* “وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به “ ([13]).
- النهي عن اتخاذ قبره مسجدًا:
كان من آخر ما
تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “قاتل الله اليهود والنصارى, اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض
العرب “([14]).
-
إحسان الظن بالله:
قال جابر رضي
الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: “أحسنوا الظن بالله عز وجل “([15]).
-
الوصية بالصلاة وما ملكت أيمانكم:
قال أنس رضي
الله عنه: كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: “الصلاة وما ملكت أيمانكم “ حتى جعل يغرغر بها
في صدره، ولا يفيض بها لسانه.
-
لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا:
قال عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر, ورسول الله صلى
الله عليه وسلم معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: “اللهم بلغت “ ثلاث مرات، “أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها
العبد الصالح أو ترى له, ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فإذا
ركعتم فعظموا الله، وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء, فإنه قمن([16])
أن يستجاب لكم “([17]).
أبو
بكر يصلي بالمسلمين:
ولما اشتد المرض
بالنبي صلى الله عليه وسلم وحضرت الصلاة فأذن بلال, قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“مروا أبا بكر فليصل “ فقيل: إن أبا بكر
رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له،
فأعاد الثالثة فقال: “إنكن صواحب يوسف([18])،
مروا أبا بكر فليصل بالناس “ فخرج أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه
خفة, فخرج يهادى بين رجلين، كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن
يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم -أن مكانك- ثم أتى به حتى جلس إلى
جنبه، قيل للأعمش: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته،
والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم([19]).
الساعات
الأخيرة من حياة المصطفى:
كان أبو بكر يصلي بالمسلمين حتى إذا كان يوم
الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر
إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده, وكيف نشأت أمة
تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر
البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داعٍ قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة
بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة دائمة، لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما
الله به عليم, واستنار وجهه وهو منير([20])
يقول الصحابة رضي الله عنهم: كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة ينظر
إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح،
وظننا أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم،
ودخل الحجرة، وأرخى الستر([21])
وانصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول
الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة، إحدى زوجتيه, وكانت تسكن بالسنح([22])
فركب على فرسه وذهب إلى منزله.
في
الرفيق الأعلى:
واشتدت سكرات
الموت بالنبي صلى الله عليه وسلم, ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على
الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعو له، وأخذت
السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها ونحرها([23])،
فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر
إليه، فقالت عائشة: آخذه لك؟ فأشار برأسه: نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته
وناولته إياه فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: “في الرفيق الأعلى “ وكان صلى الله عليه وسلم
يدخل يده في ركوة ماء أو علبة فيها ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: “لا إله إلا الله، إن للموت سكرات “ ثم نصب يده
فجعل يقول: “في الرفيق الأعلى “.. حتى قبض
ومالت يده, وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “اللهم أعني على سكرات الموت “.
وفي رواية: أن
عائشة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند ظهره يقول: “اللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى
“([24]).
وقد ورد أن
فاطمة رضي الله عنها قالت: واكرب أباه! فقال لها: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم “, فلما مات قالت:
يا أبتاه.. أجاب ربا دعاه، يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه.. إلى جبريل
ننعاه, فلما دفن صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!([25]).
كيف فارق رسول الله الدنيا؟
فارق رسول الله
صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه
أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم, وما ترك عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا
عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة([26]).
وتوفي صلى الله
عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير([27]).
وكان ذلك يوم
الإثنين 12من ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزوال([28])
وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة([29]),
وكان أشد الأيام سوادًا ووحشة ومصابًا على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان
يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس.
يقول أنس رضي
الله عنه: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها
كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وبكت أم أيمن فقيل لها: ما يبكيك على النبي؟
قالت: إني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت, ولكن إنما أبكي على
الوحي الذي رفع عنا([30]).
هول
الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
قال ابن رجب:
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط،
ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من
أنكر موته بالكلية.
قال
القرطبي مبينا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور:
من أعظم المصائب
المصيبة في الدين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي, فإنها
أعظم المصائب “ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن المصيبة به أعظم من كل
مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول
ظهور الشر بارتداد العرب, وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه.
لقد أذهل نبأ
الوفاة عمر رضي الله عنه فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي مات, ويقول: ما مات,
ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع
إليهم, والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه
مات([31]).
ولما سمع أبو
بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس،
حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة، فكشف
عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك
موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متَّها([32])،
وخرج أبو بكر وعمر يتكلم, فقال: اجلس يا عمر، وهو ماضٍ في كلامه، وفي ثورة غضبه،
فقام أبو بكر في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال:
أما بعد: فإن من
كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم
تلا هذه الآية: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144].
قال عمر: فوالله
ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد مات([33]).
قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة
والجراءة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى
الله عليه وسلم, فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومنهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية
حين قدومه من مسكنه بالسنح([34]).
فرحم الله
الصديق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة! وكم من فتنة كان المخرج على يديه! وكم
من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر رضي
الله عنه! فاعرفوا للصديق حقه، واقدروا له قدره، وأحبوا حبيب رسول الله صلى الله
عليه وسلم, فحبه إيمان وبغضه نفاق.
بيعة أبي بكر بالخلافة:
وبايع المسلمون
أبا بكر بالخلافة، في سقيفة بني ساعدة، حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى تفريق
كلمتهم، وتمزيق شملهم، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم، وليفارق رسول الله صلى الله عليه
وسلم هذه الدنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشملهم منتظم، وعليهم أمير يتولى أمورهم،
ومنها تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه([35])
والحديث عن بيعة أبي بكر سنتكلم عنه بالتفصيل عند الدخول في عصر الخلفاء الراشدين,
إن شاء الله تعالى.
غسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفنه والصلاة عليه:
قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا
ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره, فكلمهم مكلم من ناحية
البيت لا يدرون من هو، أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه،
فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم، قالت
عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه[36].
وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية، من ثياب سحول -بلدة باليمن-
ليس فيها قميص ولا عمامة، وقد صلى عليه المسلمون. قال ابن عباس: لما مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا، حتى فرغوا، ثم أدخل
النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالا،
لم يؤمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
قال ابن كثير:
وهذا الصنيع -وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد- أمر مجمع عليه لا خلاف فيه([37]).
موقع
دفنه وصفة قبره ومن باشر دفنه؟ ومتى دفن؟
اختلف المسلمون
في موقع دفنه فقال بعضهم: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، وقال قائل: في
مصلاه, فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحسم مادة هذا الخلاف أيضا بما سمعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت عائشة وابن عباس: لما قبض رسول الله صلى الله
عليه وسلم وغسل اختلفوا في دفنه, فقال أبو بكر: ما نسيت ما سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: “ما قبض الله نبيًا
إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه “، ادفنوه في موضع فراشه. وهذا الحديث وإن كان
مختلفًا في صحته إلا أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي توفي فيه أمر
مجمع عليه.
وقال ابن كثير:
قد علم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها،
شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن فيها أبو بكر, ثم عمر,
رضي الله عنهما.
وقد لحد قبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء على أن اللحد والشق([38])
جائزان، لكن إذا كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل، وإن كانت رخوة
تنهار فالشق أفضل([39]).
وأما صفة قبره
فقد كان مسنمًا([40])
أي مرتفعًا، وهكذا كان قبره الكريم، وقبرا صاحبيه، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم
مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، لا مبني ولا مطين، وهكذا قبرا صاحبيه وقد
كان قبره صلى الله عليه وسلم مرتفعا قليلا عن سطح الأرض([41]).
وأما الذين باشروا
دفنه صلى الله عليه وسلم فقال ابن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم, وزاد النووي([42])
والمقدسي([43]):
العباس, قال النووي: ويقال كان أسامة بن زيد وأوس بن خولي معهم. ودفن
في اللحد، وبنى عليه صلى الله عليه وسلم في لحده اللبن، يقال إنها تسع لبنات، ثم
أهالوا التراب.
وأما وقت دفنه فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه دفن ليلة الأربعاء, قال ابن
كثير: والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين ودفن
ليلة الأربعاء([44]).
لقد كان لوفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر على الصحابة الكرام, فقد قال أنس رضي الله عنه:
وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي -إنا لفي دفنه- حتى أنكرنا قلوبنا.
0 comments:
إرسال تعليق